قد يكون من غير المقبول؛ سماع خبر عن إبرام تحالف بين السعودية وإيران المشهورتين بصراعهما، فهذان البلدان اللذان عرفا صداما ثنائيا في أكثر من دولة؛ أصبحا حاليا، يعيشان على إيقاع أوضاع سياسية مختلفة، تحتم عليهما التقارب، أو على الأقل، الكف عن سياسة التباعد والتنافر فيما بينهما، وذلك بالعمل على تعزيز الملفات التي يمكنها أن تساعد على ذلك، مع غض النظر عن الملفات الشديدة السخونة (السوري واليمني) ولو مؤقتا إلى حين.
لقد كانت زيارة الوفد الكويتي ذي المستوى الرفيع؛ إلى طهران خلال الأسابيع القليلة الماضية، إحدى المؤشرات الدالة على بذل الجهود لتحقيق هذا التقارب، والتي وصفت صراحة، على أنها محاولة لرأب الصدع بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي، بما فيها المملكة العربية السعودية، إلى جانب مؤشر آخر، تمثل في الاتفاق السعودي لاستئناف المحادثات مع إيران حول موضوع مقاطعة الإيرانيين لشعيرة الحج خلال العام الماضي، دون أن ننسى التعبير العلني لوزير الخارجية العراقي عن استعداده للوساطة بين الرياض وطهران، ودعوة الجنرال "علي شمخاني"- المستشار العسكري للمرشد الأعلى، إلى زيادة التقارب بين البلدين.
والملاحظ أن هذه المبادرات قد جاءت في أعقاب التقارب الروسي - التركي الذي استغل انشغال أمريكا بالمرحلة الانتقالية السياسية، خاصة وأن الرئيس الأمريكي الجديد، كان قد عبر عن كرهه لإيران، وعن تباعد سياسته القادمة مع السعودية. ومن ثم، فكلا البلدين يترقبان تلك المرحلة الجديدة بقلق، يمكن وصفه بالمتجدد.
لقد كانت هناك مجموعة من العوامل التي ساهمت في تقريب وجهات النظر بين السعودية وإيران، نذكر منها: وصول الرئيس اللبناني الحليف لحزب الله إلى السعودية قبل فترة، في أول زيارة له إلى الخارج منذ توليه منصبه، وموافقة السعودية على تخفيض الإنتاج النفطي لصالح استمرار إيران في زيادة إنتاجها.
تلك المراجعة التي قامت بها السعودية فهمت في إيران ومن خلف شاشات الإعلام بأنها رسالة سعودية على الرغبة في تخفيف العداء، كما ساهمت في تقوية الإصلاحيين أمام المتشددين داخل إيران، خاصة وأنه كان نقطة دعم لجهودهم من أجل تحسين الوضع الاقتصادي وكسب ثقة الجماهير.
إن مسار هذَا التقارب السياسي يتأثر لامحالة، بتدخل وتأثير دول أخرى، في مقدمتها تركيا، ومصر، والولايات المتحدة الأمريكية، وسلطنة عمان.
دون أن ننسى التأثير الروسي، تعيش روسيا حاليا فورة عالية من استعراض للقوة عبر المعركة المحتدمة في سوريا، وتطويع المكاسب لصالح الدبلوماسية الروسية ومصالحها الخارجية، وهو التطويع الذي همش الدور الذي يقوم به الإيرانيون وحزب الله الداعمان لقوات الأسد على الأرض، الشيء الذي جعل إيران تستشعر الخوف من الخروج من سوريا لصالح طرف خارجي أخر، ويتجلى هذا التشاحن الصامت بوضوح بعد سقوط حلب لصالح النظام، وفرض دخول الشرطة الروسية لتأمين المدينة على حساب سنوات من القتال بين النظام وحزب الله وإيران من جهة، وجماعات المعارضة من جهة أخرى. إذ وعلى الرغم من الظهور المتأخر للروس في المعركة؛ إلا أنهم استطاعوا السيطرة على المدينة. وكان واضحا أن ملف الهدنة الروسية -التركية قد ساهم بامتياز، في تقزيم دور إيران، حيث لم تكن لها أية مشاركة حقيقية في رسم البنود المتفق عليها في تلك الهدنة.
لقد كان هناك، حديث عن ظهور محور سني مضاد لإيران وحلفائها من الشيعة، وكان من المفترض أن تقود السعودية وتركيا هذا المحور بهدف إسقاط نظام الأسد. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان هناك، صراع واضح بين الطرفين على السلطة في سوريا لمرحلة ما بعد الأسد. لكن البعاد الأمريكي عن التدخل المباشر، في مقابل المشاركة الروسية، دمر خططهما.
ففي الشهور الأخيرة، وبعد التطورات الجديدة على الساحة السورية، وما تزامن معها من ظروف الانقلاب الفاشل في تركيا، شرعت تركيا تفكر فيما وراء أحلام التمدد السني التي ترسخت بعد وصول العدالة والتنمية إلى الحكم. وقد دفع دعم الولايات المتحدة للأكراد وحلفائهم العرب في سوريا، دفع تركيا إلى الاعتذار لروسيا، وبدأت الآلة المضادة لأمريكا في العمل، بينما كانت السعودية تراقب عن كثب، مشهد سقوط حلب بين أيدي الأعداء، وكان واضحا من خلال الأحداث على الأرض، ومن خلال الخطاب الرسمي الذي بدأ يتهرب من التصريحات المعادية للأسد، أن تركيا أصبحت في خط المصلحة القومية البعيد عن الهوى السعودي. وهذا النوع من الخطاب يحمل في طياته مخاوف من أن تتحول تركيا إلى حليف مقرب من إيران؛ إذا ساهمت هذه الأخيرة في تحطيم الأكراد.
إن تركيا بدأت على ما يبدو اليوم، تتقبل الدور الإيراني في العراق، وذلك من خلال تقبل جماعة الحشد الشعبي التي تم ضمها إلى المؤسسة العسكرية في بغداد، كما أن زيارة "يلدرم" للعاصمة العراقية هي بمثابة جزءِ من التنازل التركي للعدو المذهبي، مقابل حصول الأتراك على دعم بغداد لرفض وجود مقاتلي حزب العمال الكردستاني في "سنجار".
وعلى مستوى آخر، فقد تجلى الصراع الرسمي بين تركيا ومصر بُعَيْدَ صعود الرئيس السيسي إلى سدة الحكم، بعدما أطاح بحكم الإخوان المسلمين، والذين كانوا مدعومين من قبل الحكومة التركية، ونجحوا في السيطرة على دول الربيع العربي. لكن السعودية وعلى الرغم من دعمها للسيسي ومعارضتها للإخوان المسلمين، إلا أنها حاولت تفادي العداء مع تركيا لصالح الملفات الساخنة الأخرى بما فيها مواجهة إيران وروسيا. غير أن مصر التي تبحث عن شخصيتها الخاصة في المنطقة، كانت تفكر بمفهوم القيادة العربية القديمة، حيث عبرت في خطابها عن حلول سلمية، مع رفضها للتدخل الخارجي في سوريا، وهو ما شجع إيران على خلق تقارب سياسي مع الطرف المصري، وبالمقابل زاد من التباعد مع السعودية، لكن ذلك الجفاء لم يمنع مصر عن التمسك بالحليف السعودي، مما جعل هذا الحليف يراجع أوراقه من جديد؛ ليقرر الاستمرار في علاقته بمصر كدولة محورية بالمنطقة لديها ثوابت في الملفات الخارجية، ومستعدة لتغيير سياستها في سبيل ملفات تعتبر ثانوية كالملف التركي.
إن العداء الإيراني السعودي قديم جداً، إلا أن الظروف والتحالفات المتغيرة وغير الثابتة في منطقة ساخنة كالشرق الأوسط؛ قد تحمل العديد من المفاجآت، ففي ظل التقارب الروسي ـ التركي، يتزايد انكماش إيران عن روسيا، كما يتزايد انكماش السعودية عن الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة وأن تخوفها من سياسة "ترامب" يضعها في عزلة. وأما إيران فهي الأخرى تعاني من احتمال ترجمة "ترامب" لتصريحاته المعادية لها إلى أفعال على أرض الواقع. فالاتفاق النووي الذي تتبجح به الجماعات الإصلاحية في النظام الإسلامي بطهران، أصبح في خطر بعد تلك التصريحات المعادية للرئيس الأمريكي "ترامب" أثناء حملته الانتخابية. علما أن المستند الشعبي الذي يحتمي به فريق "روحاني" يأتي من تلك الاتفاقية التي من المفترض أن تظهر ثمراتها الاقتصادية مع مرور الوقت. حيث أنه إذا ما أعاد "ترامب" النظر في تلك الاتفاقية، فإن المتشددين سيعودون للظهور على الساحة مجدداً، وسيفقد فريق "روحاني" ثقة الشعب الذي صوت له، الشيء الذي سيجعل الطرفين السعودي والإيراني مهددان بوضع يفتقر للحماية الدولية، وهذا ما سيفرض عليهما معا، العمل على تحقيق تقارب سياسي تفاديا لهدر الطاقات، وخدمة للمصلحة المشتركة.
ولتحقيق ذلك قد يستعين الطرفان السعودي والإيراني بخط واصل بينهما متمثلا في سلطنة عمان، والتي هي بمثابة بقعة قلق داخل المجموعة الخليجية المتكاتفة ضد إيران. ذلك أنها تتبع سياسة غير معادية لطهران، كما أن المجموعة الخليجية لم تستطيع حتى الآن جرّها إلى معاداة إيران، وفي ظل هذا الوضع، تتغاضى دول الخليج عن هذا سياسة عمان غير المعادية لإيران، مخافة أن تخسره نهائيا. وبالمقابل فإن إيران هي الأخرى، تجد في السلطنة قاعدة وقناة للتواصل مع دول الخليج، والتي يمكن من خلالها تمثين الروابط بين السعودية وإيران. كما أن السلطنة نفسها تحبذ هذا الدور، بل ترى فيه منفعة لها، خاصة وأنها تعاني من تراجع في الإيرادات بعد تدهور أسعار النفط، كما أنها تدرك بأن السعودية منهكة، وبأنها عاجزة عن تغطية التراجع الاقتصادي للبلاد، ولا يمكنها أيضا، أن تستغني عنها لصالح إيران. هذا الدور الوسطي سيزيد من قيمة السلطنة مستقبلاً، لدى الطرفين.
ويبدو أن التصريح الأخير ل “ظريف" عن أن هناك محاولات لرأب الصدع بين الدولتين المهمتين في المنطقة، هو جزء من حملة استباقية؛ لتهيئ الرأي العام ولو على المدى الطويل، لإمكانية وقف التشاحن مع السعودية التي حولتها إيران إلى "بعبع" لدى شعبها، كما تحولت هي الأخرى داخل السعودية إلى "بعبع" مشابه. كما أن ما ذكره "ظريف" في "دافوس" على أن إيران والسعودية يجب أن يعملا معاً، على إنهاء الصراعات في سوريا واليمن بعد التعاون الناجع بينهما بشأن لبنان العام الماضي، يمثل رداً واضحاً على تقدير السعودية العلني لأهمية دور الرئيس اللبناني المقرب من إيران في المرحلة الحالية. وهو جزء من تقارب أكبر، يبدو أن ملامحه أصبحت على الشاشة، ولو أنه يحتاج إلى وقت طويل ليكتمل، مع احتمال أن تعترضه مطبات من حين إلى آخر، قد تعكر صفوه وتحد من سرعة مساره المنشود، مثلما حدث إبان الهجوم الحوثي الأخير للفرقاطة السعودية بالبحر الأحمر. هكذا، يتضح أن الطرفين السعودي والإيراني مجبران في قادم الأيام على تخفيف حرارة الصراع قدر المستطاع، وعلى لجم الجماعات المتصادمة الموالية لكل منهما، وعلى ضرورة تخفيف الخطاب الإعلامي الذي يغذي فتيل الأزمات.
براء صبري- معهد واشنطن-