عبد الرحمن مرشود - الوطن
عدّ مفهوم "النبوءة المحققة لذاتها" أحد أهم المفاهيم الحديثة في علم النفس الاجتماعي، ويعني أن هناك من الأفكار ما لا يقتصر تأثيره على سلوك حامل الفكرة، بل يتعدى تأثيره إلى سلوك الآخر المستهدف بالفكرة والنبوءة.
فإذا افترضت مثلا أن فلانا من الناس يكرهك، فسيصدر منك سلوك معبر بشكل ما عما تتصوره، وغالبا سيستجيب هذا الفلان بسلوكيات سلبية تجاهك، مما يدفعك إلى المزيد من السلوك المضاد، وكذلك هو بالمقابل، حتى الوصول إلى نقطة اللاعودة من الاحتدام، وسيكون هذا كافيا حينها لتظن أن نبوءتك كانت في محلها منذ البداية.
من أهم علماء النفس الذين عملوا على هذا المفهوم تجريبيا باباد وروزنثال، اللذان أجريا تجاربهما على الحقل التعليمي، ومن ذلك إثبات أن الإيحاء إلى معلم بأن "س" من الطلاب المستجدين متدني المستوى قليل الاهتمام، فيخلق ذلك نبوءة في نفس المعلم بإخفاق هذا الطالب ستؤدي غالبا إلى استجابة الطالب لهذه النبوءة وتدني مستواه بالفعل، ويحدث هذا بواسطة انغلاق المستقبلات النفسية لدى المعلم تجاه أي شيء إيجابي يبدر من الطالب، ما يؤدي إلى توقف الطالب عن أدائه لمثل هذه المبادرات الإيجابية، بل وارتفاع ما يحدثه من السلبيات استجابة لتضخم آثارها في ذهن المعلم، مما يدفع المعلم بالتالي إلى المضي في تصديق نبوءته التي يراها تتحقق.
تعد تجربة "مسدس الضوضاء" التي أجراها مارك سنايدر من أشهر التجارب التي توضح متوالية العنف المتبادل المدفوع بالنبوءات المحققة لذاتها. إذ تعتمد التجربة على إخضاع شخصين لمسابقة تنافسية لا تعتمد على العنف في حصد نقاط الفوز، كالإجابة تحريريا على مجموعة من الأسئلة في قاعة هادئة، ولكن الشيء الإضافي هو تزويد المتسابق بشكل قانوني بمسدس يصدر الضوضاء بهدف التشويش على المتسابق الآخر. يتم الإيحاء بعد ذلك من شخص يفترض به الحياد لأحد المتسابقين بأن منافسه عدواني، ولن يتوانى في التشويش عليه إذا ما رآه مستغرقا في حل مسألة ما، يكفي عادة هذا الإيحاء لخلق موجة من التنافسية العنيفة لديه، تدفعه بعد ذلك إلى المبادرة باستعمال مسدسه محدثا الضوضاء لخصمه بشكل استباقي، لتصعد حينها حُمى إحداث الضوضاء بشكل عبثي قد يضر بأداء كليهما في المسابقة التحريرية، ولكن في المقابل ينخفض ميل المتسابق إلى استعمال ذلك المسدس عند عدم الإيحاء إليه بأي فكرة عن الطرف الآخر، وينخفض أكثر عند الإيحاء إليه بمسالمته، والعجيب أن المتسابق غالبا ما يخرج واثقا بتحقق نبوءته عن خصمه، دون أن يعي أنها لم تكن في الأصل أكثر من إيحاء مضلل.
وكما تعمل النبوءات المحققة لذاتها على مستوى الأفراد، فإنها أيضا تعمل على مستوى المجتمعات، فإذا تعرضت جماعة من الناس لأي إيحاءات تنزع الثقة من جماعة أخرى، فغالبا سينعكس ذلك على تصرفات بعض أفراد الجماعة الأولى المتأثرين بذلك الإيحاء، كما سيصدر من بعض أفراد الجماعة الأخرى تصرفات ستكون كافية للزعم بصدق النبوءة المتعلقة بهم، ولك أن تتخيل الأمر في حالة تعرض كلتا الجماعتين لذلك النوع من التأثير الإيحائي.
إذا فهمنا هذا الجزء من طبيعتنا البشرية، عرفنا مدى الأثر السلبي الذي تحمله دعوات سوء الظن التي قد ينادي بها البعض تجاه مكونات أخرى من المجتمع، دون الاستناد إلى دليل واقعي أو منطقي. فالأمر لا يقتصر على مجرد النبوءة المسيئة بل يتعدى ذلك إلى المسؤولية عن الجرم المتحقق بواسطة النبوءة.
إن النبوءات المحققة لذاتها عنصر فاعل في متواليات العنف الطائفي أو العنصري، ولكن العجيب أن المحرض طائفيا وعنصريا، كثيرا ما يقف بعد كل جريمة عنف منسوبة إلى الطائفة الخصم صارخا بتلك العبارة "ألم أقل لكم.. بأنهم مجرمون.. بأنهم قتلة.. بأنهم لا يستحقون الثقة.. إلخ"، وكثيرا ما يفوت على المتلقين لخطابه أن "ما كان يقوله لهم" غالبا ما يكون أحد عوامل صنع جريمة العنف تلك وليس العكس.
يذكرني هذا بمروية تراثية عن خصمين تبادلا الاتهامات أمام الناس عن مسؤوليتهما عن جناية ما، فما كان من أحدهما إلا أن صرخ بمظلوميته، جائرا إلى السماء بأن يهلك الله المفتري منهما غدا، فلما كان الغد عثر الناس على جثة صاحبه قتيلا، فلما سعى إليه من يخبره بالأمر، أخذ يصرخ: يا سبحان الله، ألم أقل لكم؟ يقال إن كثيرا من أهل مدينته قد تعاطف مع زعمه وربما تشكك بعضهم في الأمر، وعد الذين تعاطفوا معه على درجة عالية من السذاجة، فلا شيء يمنع من ناحية المنطق بأن يكون المتنبئ هو القاتل بعينه.