خاص الموقع

قصقصة أجنحة السعودية

في 2018/10/25

فؤاد السحيباني- خاص راصد الخليج-

تدور أغلب مراحل التاريخ عقب خطأ أو كارثة، فتتبدل المواقع، وتذهب القيادة من دولة لأخرى تنافسها، وتنتظر سقوطها، حدث هذا في الحروب البونيقية الثلاث، عقب اكتشاف الرومان "صدفة" لسر بناء السفن القرطاجية، وتمكنوا في نهاية الحرب الطويلة من حصار قرطاج العظيمة، لمدة 3 سنوات، ثم نجحوا في دخولها ودمروها تدميراً شاملاً. ذبحوا معظم المدنيين وباعوا من تبقى كعبيد، وحرقوا المدينة ودمروا جدرانها، ويُقال أنهم حرثوا الأرض بالملح، لكي لا ينمو فيها أي نبات بعد ذلك ولا يسكنها أحد. وانتهت شهرة قرطاج وثبتت أقدام إمبراطورية روما كقائدة للعالم القديم.

وفي التاريخ القريب، حدث أيضًا أن تصرفت الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية بغباء منقطع النظير، حين قررتا مهاجمة مصر –المستقلة حديثًا- عسكريًا، في أحداث العدوان الثلاثي، متناسين أن تيار التحرر الوطني ضرب العالم وقتها، وأن هناك قوى جديدة تنتظر خطأ الحسابات لتتقدم، لتنفجر الألغام في وجوه من حكموا معظم العالم في القرنين السابقين، وخرجا من الشرق الأوسط بلا نفوذ ولا بترول، وعادتا إلى دولتين في غرب أوروبا، تاركين المجال الدولي تمامًا للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق.

مسيرة تطور الدول تعتمد على التوازن، وعلى حسابات القوة الشاملة، وهذا ما فقدته المملكة العربية السعودية بالكامل في أزمة خاشقجي.

بداية فإن هناك 3 محاور في الشرق الأوسط، تقود الحرب في المنطقة وعليها، أولها محور المقاومة، الذي يسعى إلى وضع شعوب المنطقة في معادلة الصراع، وبالتالي تغييرها كليًا، والثاني هو المحور التركي-القطري، واستنساخه محور السعودية-الإمارات، وكلاهما يسعى للعب دور شرطي المنطقة كوكيل عن الأميركي، وبإشرافه.

السعودية المستنزفة كليًا في اليمن، والتي تعاني من خسارة ضخمة في سوريا، أفقدتها البريق الكاذب، الذي كانت تزين به سياستها، منذ إنشائها، والمتعثرة في تمرير صفقة القرن، لضمان وتمتين التحالف مع الصهاينة، وإزالة القضية الفلسطينية من الوجود، على حساب سيناء المصرية، انزلقت مؤسساتها إلى عملية اغتيال "مفضوحة"، بدفع من سعيها لتكرار النمط الصهيوني في التعامل مع الفلسطينيين، في سبعينات القرن الماضي، بالاغتيال في أي –وكل- مكان وزمان.

"أردوغان" ومن ورائه تميم أمير قطر، خرجا بالمكاسب كلها، وقليل من الدبلوماسية التي تغيب غالبًا عن الأتراك كفيل بإنهاء كل دور إقليمي للمحور السعودي الإماراتي، الذي يقوده فعليًا محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي، الراغب بشدة في وراثة وحصار الدور التركي، ليضع حليفه الأهم –ابن سلمان- في ورطة، وربما يخسر مستقبلًا الرعاية الأميركية، والتي تعدّ دون سواها بالنسبة لحكام المشايخ النفطيين جواز المرور إلى كرسي السلطة.

البداية الإماراتية كانت مستنسخة من التجربة التركية مطلع الألفية، سياسة "صفر مشاكل"، وتكوين التحالفات، وتعميقها، والسعي لتقديم اقتصاد مثال للدول المحيطة، الدول العربية كانت المستهدفة بالتصعيد والتلميع و"البروزة" لاقتصاد "ما بعد البترول"، المبني في حقيقته على لا شيء، لكنه نموذج جذاب، ولا خوف عسكري من ورائه، ونجح "ابن زايد" في توجيه ضربة قاتلة بإزاحة الإخوان من حكم مصر، وتصعيد الجنرال السيسي إلى الحكم، عقب عملية انقلاب، كانت الإمارات فيها داعمًا وممولًا، وجندت مصادر تأثيرها في الغرب كله لتثبيت الحكم الجديد.

ومع تولي الملك سلمان حكم السعودية، حقق "ابن زايد" ضربته الأهم بالتحالف مع فرس رهان العرش السعودي "ابن سلمان"، وبات صعود الأخير ينسب ويضاف إلى أوراق القوة الإماراتية.

وإذا كان النموذج التركي يستند إلى موقع وتاريخ مع شعوب المنطقة - وإن كان تاريخًا معمدًا بالدم - إضافة إلى وزن سكاني، ولغة تعكس اختلاف ثقافي، يجد مساحات للحوار والتقارب، وأحيانًا يسبب التضاد والصراع، فإن الإمارات والسعودية لا تمتلكان من الميزات الحاضرة إلا التدفق البترودولاري، الذي قد يساعد على بناء نموذج مشوّق، يقترب من أفلام الكارتون، أو في أفضل مشاهده، مدينة افتراضية تقترب من المثالية.

الأذرع الناعمة، التي اعتمدها التخطيط الأميركي لمستقبل المنطقة، تحولت مع الوقت، وبفعل أزمة تضرب بنيان النظام الغربي منذ 2008 -أزمة مالية تدحرجت إلى كابوس اقتصادي- إلى مخالب قاتلة، تتصرف من منطلق القوة والقدرة، وكأنها تملك بالأساس زمام أمرها، وتحول وجودها في الإقليم ذاته إلى صراع يهدد مصالح المشغل الرئيس، وعبء أكثر منه مصلحة إستراتيجية.

وأخيرًا انكشف المحور الإماراتي السعودي، أمام كل السهام، في عملية مخابراتية بائسة، يستطيع أي ضابط صغير السن والخبرة، في أية دولة بالعالم الثالث تخطيط وتنظيم ما هو أفضل منها بمراحل، ليتلقف "أردوغان" الخطأ الكارثي، وينجح في النفخ ببالونة اغتيال المعارض السعودي إلى أقصى مدى ممكن، لتصبح قضية رأي عام عالمي، تضرب أغلب حظوظ محمد بن سلمان لتولي العرش السعودي، فضلًا عن تأكيدها عدم الوثوق بهكذا حليف، قادر على نسف المصالح الأميركية بسبب التهور البالغ.

الدور الآن في نقل القطع سيأتي من واشنطن، راعية الحلفين وسيدته، ورغم أن "ترمب" يتعامل مع الجميع بعقلية "التاجر اليهودي"، الساعي للمكسب المالي السريع، فإن هناك مؤسسات أميركية ستتحرك لإعادة هندسة موقفها من المحورين، والواضح إنها ستغير قواعد اللعبة بما يناسب مصلحة استمرار الهيمنة الأميركية، في ظل رغبة أكيدة لمواجهة محور المقاومة.