ملفات » نيوم السعودية

لماذا يفشل التحديث الاقتصادي والاجتماعي في السعودية؟

في 2019/05/03

ستراتفور-

قدمت خطط التحول الاقتصادي في المملكة العربية السعودية وعودا كبيرة للسعوديين. لكن بالنسبة للعديد منهم، أصبح حلم أسلوب حياة الطبقة الوسطى بعيد المنال بشكل متزايد. ومع زيادة خيبة أملهم، يصبح العقد الاجتماعي بين الحكام السعوديين والمواطنين أكثر توترا. ويؤدي عدم الرضا الشعبي المتزايد إلى دفع صانعي السياسة السعوديين إلى البحث عن طرق لزيادة الفرص المتوفرة للشعب. لكنهم في خضم ذلك يخاطرون بتسييس استراتيجيات التنمية في المملكة، وتغيير الطريقة التي تمارس بها المملكة أعمالها.

وفي الوقت الذي ابتعدت فيه بلادهم عن نموذجها الاقتصادي الذي يعتمد إلى حد كبير على إنتاج الهيدروكربون، يجد السعوديون، المتعطشون للفرص الاقتصادية والاجتماعية، أنفسهم منجذبين إلى مدن المملكة الوسطى.

ولكن حتى أولئك السعوديون الذين حصلوا على التعليم اللازم للتنافس على وظائف أفضل وتحمل مخاطر نمط الحياة الجديد، لا يجدون النجاح دائما. وأدى ذلك فقط إلى زيادة الانقسام بين أصحاب الفرص في الأقاليم الرئيسية في المملكة والأشخاص الذين لا يملكون نفس الفرص في المحافظات البعيدة. ولكن حتى داخل المدن الكبيرة، الأكثر حيوية من الناحية الاقتصادية، يكتشف السعوديون حياة محبطة ماليا أمامهم.

وبطبيعة الحال، تعد ظاهرة تلاشي المناطق الريفية وظهور المدن المزدحمة باهظة التكاليف اتجاها عالميا، وليست ظاهرة سعودية فريدة. لكن في المملكة، حيث يخضع العقد الاجتماعي، القائم على توزيع الثروة من قبل النظام الملكي، لتعديلات باسم الإصلاح الاقتصادي، فإن تهديد الخلاف الناجم عن هذه الديناميكية سوف يفرض طريقة جديدة للتفكير.

وستجعل الضغوط التي يتعرض لها النسيج الاجتماعي السعودي بسبب الفجوات في الفرص إصلاح المملكة أصعب على نحو متزايد، ومن المرجح أن يجبر الحكومة السعودية على تغيير الطريقة التي يتم بها معالجة التنمية في البلاد.

المدن المركزية.. السلطة والتأثير والفرص

وتؤثر أبرز المدن السعودية، وهي العاصمة الرياض، والمواقع المقدسة في مكة والمدينة، وجدة العالمية، ومركز النفط بالدمام، تأثيرا كبيرا على الإنتاج الاقتصادي والحياة الاجتماعية والسياسة في المملكة منذ تأسيسها عام 1932.

ويساعد هذا على تفسير السبب في أن المجتمع السعودي اليوم مدني للغاية؛ حيث يعيش أكثر من 3 من كل 4 سعوديين في المدن، مع ما يقرب من نصف السكان في المدن الكبرى التي يبلغ عدد سكانها مليون نسمة أو أكثر.

وكان هذا نتاج النظام السياسي والاقتصادي للمملكة؛ حيث اعتمد نمو الرياض على ارتباطها الوثيق بأماكن إقامة العائلة المالكة والوزارات والمكاتب المختلفة التي تنفذ التوجيهات الملكية. وتجذب مكة المكرمة والمدينة المنورة الناس في مواسم الحج والعمرة. واستفادت جدة من قربها من تلك المدن ووقوعها على البحر. وبالنسبة للدمام، اكتسبت مكانتها كأكبر مدينة في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط.

وخلقت الديموغرافية الحضرية في المملكة تمييزا في فرص الإسكان والتوظيف بين سكان المدن وبين أولئك القاطنين في المناطق الأقل نموا. وفي تلك المناطق النائية، التي افتقرت طويلا إلى الاهتمام اللازم من العائلة المالكة، تتراكم المشاكل منذ عقود. ومع انتقال الأشخاص من المناطق البعيدة إلى المدن للعثور على الوظائف التي لا يمكنهم العثور عليها في أماكنهم الأصلية، تتلاشى الفرص في الأماكن التي يتركونها وراءهم أكثر فأكثر.

على سبيل المثال، فقدت محافظة الباحة في المرتفعات السعودية أكثر من 31 ألف شخص، أي 5% من سكانها، بسبب الهجرة الداخلية الصافية في عام 2017. وفقدت كل من محافظتي حائل والقصيم، في الجزء الأوسط من البلاد، نحو 23 ألف شخص في ذلك العام، أي أكثر بقليل من 4% من سكان حائل، ونحو 2% من سكان القصيم. وتشير مثل هذه الخسائر إلى حقيقة واضحة وهي أن معدلات البطالة في المناطق الثلاث تزيد عن المتوسط ​​الوطني البالغ 12.7%، وفقا لأرقام الربع الرابع من عام 2018. ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه.

ويشير نمط الهجرة هذا إلى قلة الفرص داخل هذه المقاطعات النائية، التي تعاني لتوفير ليس فقط وظائف كافية ولكن أيضا إسكان عالي الجودة. وتتميز الأقاليم الريفية عموما بمساكن قديمة على الطراز التقليدي، تاركة سكانها محاصرين في منازل متهالكة وفرص ضئيلة لتحسينها.

لكن المدن الكبيرة لا تقدم بالضرورة حلا سحريا. ففي حين أن معدلات البطالة في المناطق الحضرية أقل، لا يمكن لأي شخص يرغب في الحصول على وظيفة عالية الجودة العثور عليها. ومما يزيد الأمر تعقيدا أنه لا يوجد ما يكفي من المساكن من الدرجة الأولى لسد الطلب، لا سيما الفيلات العصرية المرغوبة للغاية، والتي تمثل حجر الزاوية لتوقعات السعوديين للحصول على المسكن.

وأحبط هذا النقص العديد من سكان الحضر، خاصة أولئك الذين استثمروا أموالا في مصاريف الانتقال والتعليم. وتجبر هذه القضايا الكثير من السعوديين في المناطق الحضرية على الاستئجار؛ حيث يعيش 64% من سكان المدن في شقق مستأجرة، مما يجعلهم عرضة لتقلبات أسعار السوق، ويقوض شعورهم بالاستقرار على المدى الطويل.

تفاقم المشاكل

وسوف تجعل هذه الأنماط المستمرة للهجرة السعودية قضية عدم المساواة أكثر حدة. ويبدو أن المحاولات التي بذلها النظام الملكي حتى الآن للتخفيف من التشنجات الاجتماعية الناشئة عن هذه الفرص غير المتكافئة، من غير المرجح أن تعالج المشكلات الأساسية.

ويقدم أحد هذه الجهود لتعويض الضغوط الاجتماعية والاقتصادية للتنمية - وهو برنامج حسابات المواطنين - يقدم مدفوعات نقدية مباشرة للمواطنين السعوديين.

وفي المناطق الحضرية، يمكن للبرنامج أن يساعد في خفض تكاليف المعيشة المرتفعة، لكنه لا يعالج القضايا الرئيسية المتمثلة في ارتفاع الإيجارات ونقص المساكن، كما لا يمكن أن يضمن أن توفر أسواق العمل، المشبعة بالعمال الذين يحملون شهادات عليا، أنواع الوظائف المرغوبة.

وفي المقاطعات النائية، لا توفر المدفوعات ما يكفي من الدعم للاستثمار المجدي في تنمية المجتمع، بل تقدم بدلا من ذلك دخلا يعوض ببساطة ارتفاع الأسعار مع تناقص ​​الدعم للكهرباء والمياه.

وتهدف مبادرة أخرى، وهي برنامج "سكني" للإسكان، إلى تمكين 70% من السعوديين من امتلاك منازل بحلول عام 2030. لكن الإدارة من أعلى إلى أسفل للبرنامج، عبر وزارة الإسكان، يجعل البرنامج عرضة للإهدار وسوء الإدارة.

وتزيد البنية التحتية أيضا من مخاطر عدم توافق التنفيذ دائما مع الاحتياجات المحلية؛ حيث يفرض البيروقراطيون غير المسؤولون في الغالب متطلبات لا تحل المشكلات المطروحة. ولا يوفر البرنامج أي ضمانات حول نوعية السكن الذي سيتم توفيره، أو ما إذا كان سيتم وضع الشخص في الأماكن التي يرغب فيها بالفعل. بالإضافة إلى ذلك، لا توجد آلية لضمان أن يتمكن الأشخاص الذين يشترون المنازل من سداد المدفوعات على المدى الطويل، أو أن الحكومة لن تتخلى عن البرنامج في حالة حدوث تباطؤ عقاري حقيقي في المستقبل.

وفي حين وضعت المملكة أهدافا لتحسين نوعية الحياة للمواطنين السعوديين، فهي غير محددة وصعبة القياس. وتقع مسؤولية تحقيق الأهداف على عاتق المسؤولين المركزيين، الذين قد لا يكون لديهم فهم كامل لمتطلبات جودة الحياة المحلية. ويجعل هذا النتائج أيضا عرضة للتلاعب بالبيانات بواسطة نفس البيروقراطيين. علاوة على ذلك، فشلت برامج تحسين الحياة الموجهة من قبل الدولة، التي وضعتها دول أصغر، مثل الإمارات العربية المتحدة وقطر، في تحقيق النجاح. وسيكون حجم الجهد في المملكة أكبر بكثير، مما يجعل المتطلبات أكثر تعقيدا وتحقيق النجاح أكثر صعوبة.

طريقة النجاح

وبينما تحاول المملكة التقليل من الاضطرابات والسيطرة على سردية التغيير، على البلاد أن تصبح أكثر إبداعا في معالجة قضايا جودة الحياة، وإعادة الهيكلة بعيدا عن عملية التطوير من أعلى إلى أسفل التي اتبعتها تقليديا.

وبدلا من مجرد فرض أهداف وشروط التنمية، يجب أن تستكشف الحكومة طرقا لضمان المشاركة من المتضررين من سياساتها. وتجري المملكة بالفعل انتخابات بلدية، ولكنها تتمتع بسلطة محدودة للغاية؛ وقد يكون من المفيد تفعيل هذه المؤسسات لخلق نقاش أكثر قوة.

ومن شأن هذا أن يوفر مجال للناس للتنفيس عن إحباطهم بشكل أكثر صراحة. وقد يكون المجلس التشريعي في المملكة وهو مجلس الشورى، جزءا من هذه العملية، رغم أن دوره لا يزال صوريا. وعلى الرغم من أنه من غير المحتمل أن يكون له تأثير كبير على السياسة على المدى القريب، إلا أنه بمرور الوقت، قد يصبح مجلس الشورى محفلا أكثر انفتاحا للنقاش مثل "المجلس الوطني الاتحادي"، الذي يلعب دورا مشابها في الإمارات، وإن كان يفتقر لأي سلطة سياسية أو تنفيذية.

وقد تنجح مثل هذه التغييرات السياسية، رغم أنها بعيدة كل البعد عن الديمقراطية، في تغيير الطريقة التي يتم بها العمل في السعودية جذريا. والآن، يتم إدارة العقود والاستثمارات بشكل روتيني بحت من خلال حفنة من كبار المسؤولين.

ولن ينجح هذا النموذج في السعودية في المستقبل. وإذا كانت البلاد تحاول نزع فتيل الإحباط الناجم عن عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية في المملكة، فعليها النظر في مخاوف المواطنين اليومية بعناية أكبر. ومن شأن تغيير هذا النموذج بدوره أن يغير الطريقة التي تتعامل بها المملكة مع الشركات والمستثمرين، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى إبطاء العملية وجعل بعض المشاريع المحلية أكثر عرضة للتراجع.

وكما هو الحال اليوم، لا يوجد شيء يمنع النظام الملكي من مغازلة الاستثمار في الخارج دون إيلاء الكثير من الاهتمام للشواغل المحلية. ولكن في المستقبل، لا يمكن ضمان استمرار العمل كالمعتاد دون شروط. ومن المرجح أن تصبح هذه التغييرات جزءا متزايدا من مشهد التحديث السعودي. ومن شأن الخلافات المجتمعية المستمرة أن تجبر النظام الملكي في نهاية المطاف على زيادة الوزن الذي يوليه لردود أفعال رعاياه تجاه المشاريع التنموية. وعلى طول الطريق، سيغير هذا الطريقة التي تتفاعل بها الرياض مع مجتمع الأعمال الدولي.