خاص الموقع

السعوديّة في عالم متغيّر.. هل تُعيد رسم خارطة التّحالفات الاستراتيجيّة؟

في 2023/04/13

(مبارك الفقيه \ راصد الخليج)  

انشغلَ العالم بتحليل المواقف "الجريئة" التي أعلنها الرّئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد عَودته من زيارة إلى بكين، لِما فيها من محدّدات جيوسياسيّة تتعارض مع الرّؤية الأمريكيّة للصّراع القائم بين الغرب والحلف الشّرقي المُستَجد سياسياً وعسكرياً على خلفيّة الحَرب في أوكرانيا، فقد كان أوّل أهداف ماكرون هو العمل باسم أوروبا أن يَثني المارد الصيني عن سياستِه الرّاهنة إزاء المواجهة المحتدمة مع الكاوبوي الأمريكي، والتّخفيف من سعار التحرّكات العسكريّة المُنذرة بتسونامي الحرب الصينيّة على جزيرة تايوان، فجاءت النّتيجة تمَوضعاً جديداً في المواقف وضع ماكرون فيها كلاً من الولايات المتّحدة والصّين على طَرفين مُتوازيَين لجِهة الرّؤية الأوروبيّة على أعتَاب إرهاصَات التّغيير في العَالم.

أَطلق ماكرون مَواقفه الصّادمة نسبياً بكلّ ثِقة من مَوقعه كزَعيم أوروبي وليس فقط كرئيس فرنسي، ولئن جاءت كلمَاته بلكنة باريسيّة إلّا أنّها جاءَت بلغةٍ أوروبيّة جامعة، فقد قطعت مرافقة رئيسة المفوضيّة الأوروبيّة أورسولا فون دير لاين لهُ في الزّيارة الطّريق أمَام أي مُحاولة لتَصوير تَصريحاته على أنّها تُعبّر فقط عن موقف باريس، ومَنَحته غطاءً سياسياً شاملاً ليتحدّث باسم القارة العجوز، التي تَعيش اليوم في أتون الصّراع بأبعَاده السياسيّة والاقتصاديّة والإجتماعيّة تأثّراً بمُجريات الحرب العسكريّة، ولا بدّ أنّه سمِع كلاماً صينياً واضحاً أكّد بهدوء صاخب ثبات بكّين في الجَبهة المُعارضة للحلف الغربي التي تَقوده واشنطن، ما جعَله يَقف أمام مُفترق طُرق، فإمّا أن يُكمل، ومعَهُ أوروبا، في سياسة التبعيّة للولايات المتّحدة، ويواجه الإصطدام القادم مع تنَامي احتمالات المواجهة النّوويّة الشّاملة التّدمير، أو يُعيد ترتيب أوراقه بحيث يضعَه في الحدّ الأدنى في خانة الحِياد.

وضع بعض المحلّلين المواقف الفرنسيّة "المتمرّدة" في خانَة المُناورات السياسيّة التي يتطلّبها الوَضع الحَرج التي تمرّ بهِ القارّة العَجوز، فلا أوروبا المترهّلة عسكرياً أمام التّعملق الشّرقي، الذي يَجمع روسيا والصّين وكوريا الشماليّة، قادِرة على الدّخول في مواجهة عسكريّة شاملة تجعلها في فوّهة المَدفع وتتحوّل معها إلى ساحة حرب مدمّرة، ولا فرنسا التي تعمل وألمانيا على لملَمة شتات ما بعد الحرب العالميّة الثّانية قادرة على قطع الصّلة مع نصف العالم النّامي الذي يُضيف الهند إلى المحور الروسي – الصيني، وتكبّد خسائر ماليّةٍ واقتصاديّةٍ وتجاريّةٍ هائلةٍ، لذا كان عليه أن يتمايز في الموقف إزاء الولايات المتّحدة التي تُواجه اليوم خطر تهاوي سلاح الدّولار أمام اجتياح العملات النقديّة الأُخرى كاليوان الصيني والرّوبل الرّوسي، وتبقى عينها على تايوان النّشطة اقتصادياً مَخافة أن تَذهب ضحيّة الحسابات الأمريكيّة المتهوّرة، وتُصبح أوروبا الخاسر الأكبر بلا أوراق قوّة.

في المَقلب العَربي نَجد المَملكة السعوديٍة قد أخذَت قصب السبق في استشراف المتغيّرات على المسرح العالمي، وملاحظة نزول الولايات المتّحدة عن عرش الرّيادة والقيادة للعالم، (وهذا ما اعترف به مؤخّراً مسؤولون أمريكيون بالتّلميح والتّصريح) وعلى الرّغم من أنّ الرّياض لا تَضع أبداً في فِكرها الجيوسياسي احتمال قَطع الصّلة مع الغرب، إلّا أنّها عملت بناءً على ما تمتلكه من عناصر واقعيّة على إعادة رسم أولويّاتها المُنطلقة من الحِفاظ على مصَالحها الاستراتيجيّة، بحَيث تنأى عن الإنحياز إلى جهةٍ محدّدة في سياق المواجهة الشّبه إلغائيّة بين الشّرق والغرب، فكيف وهي مع أخواتها وجيرانها من دول الخليج، تمتلك أكبر مخزون من الطّاقة في العالم! فضلاً عن أنّها استفادت من درس الأمس القريب الذي أفضى إلى خُلاصة حاسمة مفادها: "ما حكّ جلدك مثل ظفرك"، و"جارك القريب أفضل من أخيك البعيد".

النأي عن حروب الكبار استلزَم العَودة إلى الدّاخل وتَرتيب أوراق البَيت العربي، فإنّ سعوديّة مستقرّة في مُحيطها وبيئتها تَجمعها صلات تعاون وتنسيق مع الأقربين من الجيران والأخوة أفضل منها مع سعوديّة غير مستقرّة سياسياً وغير آمنة عسكرياً وتتكبّد الخسائر المالية والاقتصادية بِلا طائل وكُرمى لعيون أمريكا والغرب، ولذلك فتَحت الرّياض أبوابها لموسكو وبكّين، ومدّت يدَها إلى طهران، وأصغَت بأُذُنَيها إلى سوريا مُتعاليةً عن شطحَات الماضي وصغائِره التّافهة أمام هول ما هو قادم، وبسَطت عباءتها لليَمن فأعلنت وقف الحَرب كمقدّمة للتّسوية الشّاملة، وتخطّط لتَستعيد دورها الحَاضن لدوَل المنطقة، كلّ ذلك لإدراكها نظَرياً وعملياً بأنّ خيار الحَرب والمُواجهة لم يؤدِ إلّا إلى مَزيد من الإستنزاف والتّعقيد غير المُفيد في خارطة المَنطقة العربيّة والإسلاميّة.

من الطّبيعي ألّا تلقَى الخُطوات السعوديّة مُباركة واشنطن، التي تسعى اليوم إلى مُحاوَلة تصحيح ما ارتكبَته من أخطاء جوهريّة في التّعامل مع الرّياض، فلَم يعُد جوزف بايدن المُتَعَجرف يَجِد غَضَاضة من إرسال موفَديه إلى ولي العَهد محمد بن سلمان توَخّياً لتَسويةٍ ما، فهوَ أدرك أنّه دفع السعوديّة بيَديه إلى الشّرق الرّوسي والصّيني نتيجة صلفه في التّعاطي السياسي من جهة، ومن جهة ثانية إدراك ابن سلمان أنّ الوعود الأمريكيّة بـ "الحماية" لقاء استعداء المُحيط العَربي والإسلامي لم يَكُن سِوى فزّاعة غير واقعيّة، وجاء بنتائج كارثيّة على استقرار المملكة، وعليه تحوّل الإستعداء السّلبي إلى استدعاء إيجابي يُريح السعوديّة والمنطقة.

كذلك من المَنطقي أن تُثير هذه الخطوات خنق إسرائيل، التي تُواجه – باعتراف مسؤوليها – أزمة وجوديّة تُهدّدها من الدّاخل، سَواء عبر الانقسام الحادّ سياسياً واجتماعياً وعرقيّاً، أو عبر تصاعُد وَتيرة المواجَهات مع الفلسطينيين الذين وسّعوا دائرة الاستهداف لتَشمل مناطق الضفّة الغربيّة بما يَعنيه ذلك من تَهديد مُباشر ومَفتوح للوجود الاستيطاني بعدَما كان مَحصوراً ضِمن قِطاع غزّة المُحاصَر، وفعل ابن سلمان حسناً في عدم الاستِعجال بتَطبيع العلاقات مع إسرائيل، واستبدل ذلك بفتح الأبواب للسّفارة الإيرانيّة وفَتح أبواب القَصر المَلكي أمام وزير الخارجيّة السّوري وكذلك الأجواء والعلاقات الثنائيّة، أي أنّه استبدل التّرحيب بإسرائيل بالتّرحيب بأعدائها على الأرض السعوديّة، وهذا بحدّ ذاته قَرار انقلابي لم يَكُن مرجّحاً بهذا الزّخم في دوائر القَرار الأمريكيّة والإسرائيليّة، كما لم يأتِ نتيجة ردّ فعل انتقامي من الخِذلان الذي لاقَته الرّياض من واشنطن وأوروبا في أكثر من اختبار وامتحان، بقَدر ما هو تطبيق لنتائج دراسة معمّقة أجراها البلاط الملَكي للمتغيّرات التي ينتَظرها العَالم.

عادَت المَملكة إلى المِحوَر العَربي – الإسلامي، واستعادَت موقعها الطّبيعي في قَلب هذا المِحوَر الذي يَجمع ولا يفرّق، ويضَع مَصالِحَه كأولويّة فوق كلّ اعتبار دون تبعيّة للغَرب أو ارتهان للشّرق، فالمنطقة وعلى رأسها السعوديّة لم تَعُد طَرفاً مغموراً يحتاج إلى وصايَة، أو مَصنع فُستق أو بقَرة حَلوب على حدّ تَعبير دونالد ترامب، بل إنّ ما يجري على السّاحة الدّوليّة أثبت أنّ هذا المِحوَر هو قُطب الرّحى في الدّوران الاستراتيجي الذي يَنبغي حمايَته بعناصرِه الذّاتية، وأنّ استقرار هذا المِحور من شأنِه أن يَجعلَه في موقع المحرّك وليس الأداة المتحرّكة بدَفع خارجي، ويَبقى أن ننتظِر تباشيرَ الإستشراف المُقبل في هذا العَالم المتغيّر، لنرَى كيف ستُعيد السعوديّة رَسم خارِطة تَحالُفاتِها الاستراتيجيّة.