سياسة وأمن » حوادث

اختبارات المطر.. هل نجحنا أم فشلنا؟

في 2015/12/03

محمد المزيني- الحياة السعودية-

لم يكن المطر دائماً، وعلى مر التاريخ، يبعث على الفأل، على رغم توق الصحراء إلى مائه؛ فالمدن المحتشدة بقوالب الحضارة الحديثة ستبعث في قلوب الصغار الخوف من المطر، الذي يباغتها ذات ليل أو نهار ربما يحيلها إلى أنقاض فوضى، وإلى حطام حزن يستفز الخوف والكراهية له، بسبب عجزنا عن السيطرة على ماء السماء الذي أغرق الأرض، فهو الاختبار الأمثل ليس فقط لقدرتنا على إنقاذ أنفسنا من حبائله المهلكة، بل اختبار لصدقية أخلاقنا وقيمنا التي تحثنا دائماً على الإتقان في كل شيء، وأن نكون أمناء على ما في أيدينا من مسؤوليات؛ بأن نؤدها على الوجه الأكمل من دون نقصان.

فالمطر ذو الخصوصية الاستكشافية والقدرة الخارقة على التسلل إلى مكامن العطب، لا يزال يمارس دوره منذ أمطار جدة عروس البحر ذات الفجيعة المطرية التاريخية في تشرين (نوفمبر) 2009، وهو يقدمنا لمحك اختباراته، أولها: اختبار صدقية قيمنا التي نحاول وسم أنفسنا بها.

ثانياً: صدق ولائنا لمن وضعوا ثقتهم بنا من ولاة الأمر. ثالثاً: حقيقة حبنا لوطنناً. رابعاً: يكشف تخاذلنا وتقاعسنا عن القيام بما يجب القيام به قبل موعد المطر القادم، فهل تعلَّمنا الدرس من اختبارات المطر المتوالية، وأعدنا تأهيل البنية التحتية لمشاريع حقيقية لا وهمية، تحفظ حياة الناس وممتلكاتهم؟ خامساً: قدرتنا على إيقاف المسؤولين ومحاكمتهم من دون تأخير أو تأجيل.

لقد كشفنا المطر بما لا يدع مجالاً للشك والتبرير، رأينا كيف تحولت بعض مدننا القديمة التي تحملت ما هو أشد من مطر يومين عابرين، شاهدنا القوارب تعوم وسط بحيرات مائية وسط أحياء مدن صحراوية، حتى لو حاولنا البحث عن أسباب تبريرية فسنعجز؛ لأن لغة المطر لا تقبل أي نوع من المماحكات البلاغية التبريرية. اليوم، علينا أن نتساءل ونبحث بجدية عن قدرة مدننا على مقاومة الكوارث الطبيعية. المطر اختبار حقيقي، لذلك فمن المهم جداً معاقبة كل المسؤولين المقصِّرين والآخرين المتورطين في فساد من نوع ما؛ لأن الأرواح التي تذهب هدراً تحت طائلة أي عبث إداري لها قيمة ووزن لا يكفيها مجرد التصريحات المجانية، الدولة -رعاها الله- منحت الكثير جداً من موازنات ضخمة لمشاريع فشلت في أن تحقق ما كان يؤمل من ورائها. أعتقد بأننا اليوم نعيش أزمة أخلاق وقيم لا تصادق عليها أفعالنا؛ لأننا ببساطة أصبحنا لا نرى أبعد من مواطئ أحذيتنا وكما يقول المثل (أنا ومن بعدي الطوفان).

برأيكم.. ما الحل ونحن اليوم نشهد الكارثة تتجدد في مدننا بلا استثناء؟ الأمطار لا تزل تختبرنا وفي كل مرة نرسب بامتياز، وتحيلنا إلى أوراق محبَّرة بالقرارات غير النافذة لا تصلح سوى أن يصنع منها زوارق ورقية يتلاعب بها الأطفال، شريطة أن نعلمهم كيف يحموا أنفسهم من الانزلاق في طوفان المياه المنحدرة عبر الطرقات بلا أعين بصيرة، فهل نقول إن غياب القيم أفضى إلى غياب قيمة الوطن الذي يعني بدرجة أولى الإنسان الذي يبصم يومياً وجوده على أديمه.

نعلم أن هناك جهوداً بُذلت وقرارات اتُّخذت، لكنها مع ذلك لم تكن لتضع المبضع على مكمن الورم الخبيث، وكأننا قد انشغلنا عن الكارثة بظاهرتها ونتائجها من دون المباشرة في وأدها من خلال حلول ناجعة لها، هل يليق بالمسؤولين عن هذه الكارثة البحث عن شماعة تعلق عليها المسؤولية من باب «رمتني بدائها وانسلت» من دون أدنى اعتبار لقيمة الإنسان وقيمه، ألا نجد يوماً ما مسؤولاً يعلن بشجاعة عن مسؤوليته الكاملة عن فشله، ويقدم استقالته ويعتذر للوطن عن عجزه كما يفعل الآخرون في البلاد المعمورة بأنظمة صارمة.

نعلم أن قيادتنا -رعاها الله- متسامحة وتغض الطرف لتتيح فرصة لتعديل المسار، إلا أن الأرواح التي تزهق جراء هذا الإهمال المتعمد بسبب الجشع وحب المال وعشق الكراسي لا ينبغي التساهل بها؟ فليس أمام المتورطين سوى المحاكمة العادلة بشبهة القتل المتعمد، وكلنا انتظار لقرارات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان العادلة التي أنصفت مواطناً من مسؤول صفعه على الملأ، ويقيني أنها لن تبرح عنايته الكريمة حتى يقتص من القتلة الفاسدين المتورطين بكارثة السيول.

يضحكنا جداً أن تتخلى أمانة مدينة من المدن عن مسؤولياتها تجاه أي كارثة تحدث بحجج واهية، كما فعلت أمانة مدينة جدة الذين أخلوا مسؤوليتهم فوراً عن غرق المدينة، بحجة أن مشاريعها الحيوية أسندت إلى شركات أخرى خارجة عن إداراتها، وكانت «الأمانة» باركها الله ليس من مسؤولياتها سوى نظافة المدينة الغارقة بالمياه، ومنح الفسوح والتراخيص للبناء، ومزاولة الأنشطة التجارية، وحق لنا أن نسأل هذه الأمانة الموقرة وأي أمانة تنحو هذا المنحى عن الموازنات المخصصة لهذه المشاريع كيف تصرف؟ وهل يعني أن أي شركة يسند إليها أي مشروع تلحق بها مسؤولية أي فساد يحدث بتفرد، وأن «الأمانة» لا تتحمل أدنى تبعات؟ هذا منطق غريب، والأغرب منه أنها لا تستحيي من إعلان ذلك على الملأ.

دعونا نسأل عن الطريقة التي تدار بها هذه العقود وكيف توقع مع شركات معينة من دون مناقصات مطروحة، كما تنص على ذلك الأنظمة، لتذهب هذه الشركات بالجمل بما حمل.

ثمة أمر غير مفهوم هنا، لعمري إنه أنموذج للفشل الإداري بعينه تلك الذي تدار به بعض مؤسساتنا المتخاذلة عن القيام بواجبها كما ينبغي، لا أعتقد بأنه من الصعب العثور على مسؤولين صالحين، وأكاد أجزم بذلك؛ ولكي لا ندخل بلعبة التخمينات والتوقعات، فأرى أنه من الأجدر بنا والأنفع لنا والأسلم، بعد كل هذه التجارب والأزمات والكوارث ألا يمكَّن أحدهم من المسؤولية إلا ببرامج واقعية وعملية يتم تحكيمها من مختصين وتترك المنافسة بين كل من يجد في نفسه الكفاءة لإدارة ملف أو مؤسسة أو وزارة ما، فلا يعين أحدهم إلا بواسطة عملية فرز دقيقة ومحكمة على ضوئها يتم اختياره؛ كي لا يترك للمراتب الإدارية فرصة لوصول السيئين العاجزين إلى سدة الإدارات القيادية فتحل الكارثة، ثم يمنح وقتاً كافياً لإنجاز مشروعه، كما يسن معها قوانين صارمة ورادعة يتم حسابه وفقها من خلال المحكمة الإدارية بعد انتهاء مدته المقررة حتى لو أدى ذلك إلى محاكمته وسجنه عن أي تقصير أو إخلال بالأمانة، بهذا لن تؤمن العقوبة كما لن يساء الأدب. بعده لن يكون المطر إلا صديقاً لنا ورفيقاً بنا.