في 2025/07/30
طه العاني - الخليج أونلاين
تُواصل المملكة العربية السعودية خطواتها المتسارعة لترسيخ مكانتها كمحور لوجستي عالمي، مستندة إلى بنية تحتية متطورة واستراتيجيات شاملة تعزز تنافسيتها في سلاسل الإمداد والنقل، وتأتي هذه التحركات ضمن رؤية وطنية تهدف إلى رفع كفاءة الخدمات اللوجستية، وتنويع الاقتصاد، وتعزيز الصادرات غير النفطية.
وتشهد الموانئ السعودية نمواً ملحوظاً في مستوى الأداء والتوسع في خدمات الربط البحري، بما يعكس التقدم في تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للنقل والخدمات اللوجستية، التي تسعى إلى جعل المملكة نقطة عبور رئيسية للتجارة العالمية بين ثلاث قارات.
الربط البحري
وفي هذا الإطار أعلنت الهيئة العامة للموانئ "موانئ" إطلاق خدمة الشحن الجديدة "FRS1" في ميناء جدة الإسلامي، ضمن توجه يستهدف تعزيز كفاءة الميناء وتوسيع شبكة خدماته البحرية.
وتربط هذه الخدمة الميناء بخمس وجهات إقليمية وعالمية، تشمل ثلاث مدن صينية هي: نينغبو، وشنغهاي، ونانشا، إلى جانب العقبة في الأردن، والسخنة في مصر، بطاقة استيعابية تصل إلى 2000 حاوية قياسية.
وتسهم هذه الخدمة في دعم حركة الصادرات الوطنية، ورفع جاهزية ميناء جدة باعتباره أحد أبرز موانئ المملكة بطاقة استيعابية تبلغ 130 مليون طن سنوياً، وبنية تحتية تضم 62 رصيفاً ومحطتين لمناولة الحاويات بطاقة سنوية تبلغ 7.5 مليون حاوية، كما يحتوي الميناء على مرافق متقدمة لصيانة السفن والخدمات اللوجستية.
وكانت الهيئة العامة للموانئ قد أطلقت، في 2 يوليو 2025، مشروع الممر اللوجستي المباشر بين ميناء جدة الإسلامي والمنطقة اللوجستية بالخمرة، بتكلفة تتجاوز 689 مليون ريال (183.7 مليون دولار) يمتد بطول 17 كيلومتراً، ويشمل مسارين في كل اتجاه و12 جسراً مخصصاً لحركة الشاحنات، ما يرفع الطاقة الاستيعابية للميناء بنسبة 10%.
ويهدف المشروع إلى تسهيل حركة البضائع، وتقليل الزحام داخل المدينة، ودعم سلاسل الإمداد عبر بنية تحتية متكاملة تعزز من مكانة ميناء جدة كمركز لوجستي محوري على البحر الأحمر.
وتعكس هذه الخطوة التقدم في تحقيق مستهدفات المملكة ضمن الاستراتيجية الوطنية للنقل، لا سيما فيما يتعلق بتوسيع الربط البحري مع الأسواق العالمية، ودعم التجارة الإقليمية، وتحويل السعودية إلى نقطة التقاء رئيسية بين آسيا وأفريقيا وأوروبا.
فرص واعدة
ويرى الأكاديمي والخبير الاقتصادي أحمد صدام أن توفر خدمة "FRS1" في ميناء جدة سيمكنه من استقبال الحاويات بشكل مباشر، مما يقلل من العبء التشغيلي على الموانئ الوسيطة في المنطقة ويسرع وصول الحاويات إلى المملكة بتكلفة أقل.
ويوضح لـ"الخليج أونلاين" أن فرص التوسع لميناء جدة ستكون واعدة بشكل أكبر إذا فتحت مناطق حرة ملصقة بالميناء، على غرار تجربة ميناء جبل علي.
ويشير صدام إلى أن هذا من الممكن أن يحول ميناء جدة إلى ميناء محوري يخدم دول المنطقة، وأن ارتباطه المباشر بالخطوط الملاحية الدولية عبر خدمة "FRS1" يمكن أن يجعله ميناءً لوجستياً بامتياز.
ويعتقد أن التوترات الحالية في البحر الأحمر قصيرة الأمد ولن تؤثر على خطط التوسع السعودية طويلة الأمد للميناء، والتي تتماشى مع مستهدفات رؤية السعودية 2030.
كما يرى صدام أنه في المدى القصير قد لا يكون ميناء جدة قادراً على منافسة موانئ حققت سبقاً تنافسياً كبيراً مثل جبل علي وسنغافورة، لكنه يتوقع أن يحصل على حصة سوقية جيدة على المدى الطويل، شريطة إنشاء المناطق الحرة وتطوير سرعة التخليص الجمركي وتطبيق التقنيات المتطورة الأخرى.
ولفت إلى أن خدمة "FRS1" تدعم سلاسل الإمداد عبر تقليل زمن الترانزيت وزيادة عدد الرحلات المباشرة من وإلى الميناء، مما يرفع كفاءة الشحن ويشجع الشركات البحرية على التعامل المباشر مع ميناء جدة.
ويبين أن هذا الأمر يحفز إقامة الصناعات في المناطق الحرة ويجعل الميناء مركزاً صناعياً، خاصة للصناعات المخصصة لإعادة التصدير.
وأكد صدام أن الميناء يدعم سلاسل الإمداد عالمياً كحلقة لوجستية متكاملة، لكن ذلك يتوقف على إنشاء مناطق حرة وربطها، ليصبح ميناء جدة محوراً عالمياً للنقل البحري.
تحوّل لوجستي
في ظل مشهد عالمي تتشابك فيه الأزمات الجيوسياسية والحروب التجارية، باتت الموانئ البحرية لاعباً محورياً في رسم خريطة التجارة الدولية، إذ تتسابق الدول لتأمين مواقع استراتيجية تضمن انسيابية سلاسل الإمداد.
وتُعد منطقة الشرق الأوسط من أكثر المناطق تأثراً بتلك التحديات، سواء بسبب النزاعات الإقليمية، أو بفعل التوترات بين القوى الاقتصادية الكبرى مثل الصين والولايات المتحدة.
وفي هذا السياق برزت السعودية كأحد اللاعبين الرئيسيين في إعادة تشكيل معادلة النقل البحري العالمي.
تعتمد المملكة في ذلك على موقعها الجغرافي الاستثنائي الذي يربط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، حيث تمر نحو 13% من حركة التجارة العالمية عبر موانئها، وفق الهيئة العامة للموانئ.
ويُعد هذا الموقع ركيزة أساسية في استراتيجية "رؤية 2030"، التي تهدف إلى تحويل السعودية إلى مركز لوجستي عالمي، وزيادة مساهمة الصادرات غير النفطية إلى 50% من الناتج المحلي بحلول 2030، إذ تمر عبر الموانئ 70% من صادرات المملكة.
وأشار تقرير نشرته مجلة "المجلة" الدولية المتخصصة، في 3 يوليو الجاري، إلى أن السنوات الأخيرة شهدت تسارعاً في تطوير الموانئ السعودية، سواء على مستوى البنية التحتية أو التحول الرقمي؛ ففي مدينة نيوم، من المنتظر أن تُفتتح عام 2026 واحدة من أكثر محطات الحاويات تقدماً في العالم، تعتمد بالكامل على أنظمة مؤتمتة تُدار عن بُعد.
كما دُشّن مؤخراً أول جسر نقل بري للبضائع يربط ميناء الجبيل بميناء الرياض الجاف عبر شبكة القطارات، ضمن خطوات لدمج الموانئ في منظومة لوجستية متكاملة.
على الساحل الغربي يخضع ميناء جدة الإسلامي لعملية تطوير نوعية جعلته نقطة جذب للاستثمارات الدولية؛ فقد افتتحت شركة "ميرسك" في 2024 أكبر منطقة لوجستية متكاملة لها في الشرق الأوسط داخل الميناء، باستثمار تجاوز 347 مليون دولار.
وجرى توسيع المحطة الشمالية بتمويل بلغ 267 مليون دولار، ما رفع طاقتها الاستيعابية من 2.5 إلى 6.2 ملايين حاوية قياسية، كما أُضيفت 22 خدمة ملاحية جديدة خلال 2025، وتربط الميناء محطات إقليمية وعالمية تشمل بور سعيد والعقبة وطنجة وصلالة وجبل علي وموندار، وغيرها.
تُعزز هذه الخطوات التقدم في تحقيق مستهدفات المملكة، حيث قفزت إلى المركز الـ17 عالمياً في مؤشر الأداء اللوجستي الصادر عن البنك الدولي، واحتلت المرتبة الـ15 عالمياً في مناولة الحاويات، بدخول ثلاثة موانئ سعودية قائمة أكبر 100 ميناء في العالم.
وتُقدَّر القيمة الإجمالية للاستثمارات في المناطق اللوجستية السعودية بأكثر من 2.67 مليار دولار، ضمن خطة تشمل 20 منطقة، إلى جانب مشاريع إضافية بدعم مباشر من "صندوق الاستثمارات العامة" ووزارة النقل، التي خصصت 8 موانئ في صفقات تتجاوز 533 مليون دولار، بعقود تشغيل طويلة الأجل مع شركات محلية ودولية.
وتُظهر هذه الأرقام كيف تتحوّل السعودية تدريجياً إلى منصة رئيسة في مشهد التجارة العالمية، مدفوعة برؤية استراتيجية تستثمر في الموانئ الذكية، والبنية التحتية الحديثة، والشراكات الدولية، وسط بيئة تشريعية محفزة للنمو والاستدامة.
وبينما تتسارع وتيرة الاستثمار في البنية التحتية والمناطق اللوجستية، تؤكد السعودية موقعها المتقدم في سلاسل التجارة العالمية، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التكامل الاقتصادي الإقليمي والدولي.