اقتصاد » تطوير بنى

الجبل الأخضر يقطف ثماره الذهبية.. موسم الزيتون العُماني في أوجه

في 2025/10/09

مازن المحفوظي - الخليج أونلاين

في هذه الأيام من العام، يعيش الجبل الأخضر بمحافظة الداخلية العمانية إحدى أجمل فتراته الزراعية وأكثرها حيوية، مع انطلاق موسم حصاد الزيتون الذي يغمر القرى الجبلية بنشاط بهيج، وتفوح في أجوائه رائحة الزيت الطازج المنبعثة من المعاصر المنتشرة في أرجاء المكان.

وبين المدرجات الخضراء المتدرجة على السفوح والبيوت، وأصوات المعاصر التي تعمل بلا انقطاع، تتجلى ملامح مشروع وطني يجمع بين التنمية الزراعية والاقتصاد الريفي والسياحة البيئية.

على مدى أكثر من عقدين، تحول الجبل الأخضر من موئل طبيعي بخصوبة أرضه واعتدال مناخه إلى مركز زراعي واعد يحتضن آلاف أشجار الزيتون، التي باتت اليوم مصدر فخر للولاية ورمزاً للاستدامة الزراعية في عمان.

ومع حلول موسم الحصاد الممتد من منتصف سبتمبر إلى منتصف ديسمبر من كل عام، تنبض القرى الجبلية بحركة نشطة تجمع المزارعين والأسر والعاملين في المعاصر، في مشهد يجسد العلاقة العميقة بين الإنسان العماني وأرضه.

موسم الحصاد

يعد موسم الزيتون في الجبل الأخضر من أبرز المحطات الزراعية في السلطنة، إذ تشير البيانات الرسمية إلى أن إنتاجه من زيت الزيتون تجاوز 10 آلاف لتر، بقيمة تُقدّر بنحو 200 ألف ريال عماني (520 ألف دولار)، في حين بلغ عدد الأشجار المزروعة في الولاية أكثر من 17 ألف شجرة موزعة على نحو 50 فداناً.

كما يواصل القطاع الزراعي في الولاية نموه بثبات، بدعم من خطط التوسع التي تتبناها وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه ومؤسسات التمويل الزراعي.

وتشير أحدث المشاريع الزراعية إلى قيام الوزارة، بدعم من صندوق التنمية الزراعية والسمكية، إلى زراعة خمسة آلاف شتلة جديدة من الأصناف الإيطالية عالية الجودة، التي أثبتت ملاءمتها لمناخ الجبل الأخضر بعد تجارب زراعية ناجحة.

ويأتي هذا التوسع في إطار خطة وطنية تهدف إلى تعزيز الزراعة الاقتصادية المستدامة، التي تقوم على استثمار الأراضي الزراعية في الولاية وتهيئتها للمستثمرين والمهتمين بزراعة الزيتون، بما يسهم في تنمية الإنتاج المحلي وتوسيع القاعدة الزراعية لهذا المحصول الواعد.

نقاء الطبيعة وسر التميز

التميز الذي حققه زيت الجبل الأخضر لا يرتبط بكمية الإنتاج فقط، بل بنوعيته الاستثنائية التي جعلته يفرض حضوره في الأسواق المحلية والدولية؛ فزيته يُستخلص بطرق تقليدية وحديثة في آن معاً.

كما تؤكد دراسة علمية حديثة أجراها راشد بن عبد الله اليحيائي، عميد كلية العلوم الزراعية والبحرية بجامعة السلطان قابوس، أن "زيت الزيتون العماني يكتسب سمعة متنامية في الأسواق الإقليمية والدولية بفضل خصائصه الكيميائية الفريدة المطابقة لمعايير العالمية".

وأشار اليحيائي في دراسته إلى أن "تجربة السلطنة مع الزيتون، التي بدأت في التسعينيات بإدخال نحو 10 آلاف شتلة من أصناف متعددة، تطورت لتصبح اليوم تجربة نموذجية في إدارة المحاصيل الجبلية".

وتناولت الدراسة دور المؤسسات الحكومية المعنية في دعم المزارعين وتطوير هذا القطاع، بدءاً من توفير الشتلات مجاناً، مروراً بتنظيم برامج تدريبية وإرشادية متخصصة، وصولاً إلى إنشاء معاصر حديثة أسهمت في رفع كفاءة الإنتاج وتحسين جودة الزيت.

وأثمرت هذه الجهود ارتفاع عدد أشجار الزيتون في السلطنة إلى نحو 20 ألف شجرة، مع اكتساب زيت الزيتون العماني سمعة متزايدة في الأسواق الإقليمية والدولية بفضل نكهته الفريدة وجودته العالية.

وأشار اليحيائي إلى أن "مشروعه البحثي الاستراتيجي يهدف إلى تحديد المناطق الأكثر ملاءمة لزراعة الزيتون بالاستناد إلى العوامل المناخية وتوفر الموارد المائية، إضافة إلى اختبار وإدخال أصناف جديدة عالية الإنتاجية تتناسب مع بيئة السلطنة، مع التركيز على تطبيق أفضل الممارسات الزراعية في مجالات التقليم والري والتسميد، بما يسهم في رفع كفاءة المزارع وتحسين جودة المحصول".

ولم تقتصر الدراسة على الجوانب الإنتاجية فحسب، بل تناولت أيضاً فرص الابتكار في استثمار المنتجات الثانوية مثل أوراق الزيتون ولب الثمار المعصور (التفلة)، التي تُعد مورداً مهدراً يمكن تحويله إلى منتجات غذائية وصحية وتجميلية ذات قيمة مضافة، ما يعزز من الجدوى الاقتصادية والاستدامة البيئية للقطاع.

كما شددت على أهمية رفع كفاءة وحدات المعالجة، وتبني حلول اقتصادية مستدامة لمواجهة التحديات التشغيلية وتحسين العائد الكلي للمنتجين.

وخلصت الدراسة إلى أن هذه الجهود تمثل خريطة طريق متكاملة لتطوير قطاع الزيتون في سلطنة عمان، لا بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي فحسب، بل أيضاً لترسيخ مكانة السلطنة كمشارك رئيسي في سوق الزيتون الإقليمي، وتعزيز دورها في دعم الاقتصاد الوطني عبر قطاع زراعي مستدام ومبتكر يجمع بين البحث العلمي والممارسات الميدانية الحديثة.

من المحلية إلى العالمية

لم تتوقف قصة الزيت العماني عند حدود الجبل، بل عبرت إلى الساحة الدولية، بعد أن حققت مزرعة "رياض الجبل" التابعة لشؤون البلاط السلطاني إنجازاً نوعياً خلال عام 2022 بحصولها على ثلاث جوائز عالمية في مسابقة جامعة زيورخ للعلوم التطبيقية بسويسرا، وهي من أهم مسابقات جودة زيت الزيتون في العالم.

في تلك المنافسة، التي ضمت أكثر من 123 منتجاً من 11 دولة، منها إسبانيا وإيطاليا واليونان والبرتغال، فاز الزيت العماني بالميدالية الفضية في صنف "كورناكي"، وميداليتين برونزيتين في صنفي "كورتينا" و"الممزوج بعدة أصناف".

هذا الإنجاز يعكس المكانة التي بلغها زيت الجبل الأخضر من حيث النقاء والجودة والمعايير الفنية الدقيقة في الاستخلاص.

ويؤكد فوز "رياض الجبل" أن المعايير العمانية في إنتاج الزيت باتت تضاهي الممارسات العالمية، من حيث الحصاد اليدوي، والتخزين البارد، والاستخلاص السريع للثمار خلال ساعات قليلة من قطفها، وهي مراحل حاسمة للحفاظ على النكهة والمركبات العضوية.

كما أن طبيعة الجبل الباردة ترفع من نسبة الأحماض الدهنية المفيدة ومضادات الأكسدة، مما يمنح الزيت خصائص علاجية وغذائية تنافس أجود الزيوت العالمية.

وشكل هذا الفوز نقطة تحول في نظرة المستثمرين والمزارعين إلى قطاع الزيتون، إذ بات يُنظر إليه كفرصة اقتصادية حقيقية ذات بعد محلي ودولي في آن واحد، كما أسهم في تعزيز سمعة المنتج العماني في الأسواق الإقليمية.

الزراعة والسياحة.. وجهان لنجاح واحد

لم تعد زراعة الزيتون في الجبل الأخضر نشاطاً زراعياً بحتاً، بل أصبحت عنصر جذب سياحي وثقافي يضيف بُعداً جديداً لتجربة الزائر في عمان.

فمع حلول موسم الحصاد، تتزين القرى مثل سيح قطنة وسيق وغيرها بأشجار الزيتون المثمرة، ويُقبل الزوار من داخل السلطنة وخارجها لمشاهدة مراحل القطاف والعصر وتذوق الزيت الطازج.

وتنظم بعض الفنادق والمنتجعات الجبلية فعاليات موسمية وجولات ميدانية خلال موسم حصاد الزيتون، تتيح للزوار التعرف عن قرب على مراحل القطاف والعصر، والمشاركة في الأنشطة التراثية المصاحبة للموسم.

وتشمل هذه الفعاليات برامج تعريفية بأساليب الزراعة التقليدية، وتجارب تذوق للزيت الطازج، وعروضاً ثقافية مرتبطة بالموروث الزراعي في المنطقة.

وتسهم هذه التجربة في ترسيخ مفهوم السياحة الزراعية، التي تجمع بين الجمال الطبيعي والتراث المحلي والإنتاج الحرفي، إذ يجد السائح في الجبل الأخضر فرصة للتعرف على الزراعة الجبلية التقليدية، والتفاعل مع المزارعين، وشراء منتجات محلية مثل الزيت والمخللات والصابون الطبيعي ومستحضرات التجميل المصنوعة من مستخلصات الزيتون.

هذا التلاقي بين الزراعة والسياحة صنع نموذجاً فريداً للتنمية المتكاملة، حيث تعود الفائدة على المجتمع المحلي من خلال زيادة الدخل وتنشيط الاقتصاد الريفي، كما يسهم في الحفاظ على البيئة الزراعية وإحياء الممارسات التراثية.

وبذلك أصبحت شجرة الزيتون رمزاً للحياة الريفية في الجبل الأخضر، ومصدر فخر ثقافي واقتصادي.