بدلاً من تعزيز التلاحم العربي ومفهوم الوحدة العربية، يلجأ بعضهم إلى التقليل من مكانة العرب الخليجيين، وبخاصة أنه لا يعترض على ما يراه تطرفاً فحسب، بل هو يعتبر الثقافة العامة في المملكة متطرفة، فجمال الغيطاني أبدى اعتراضه مثلاً على المباني التي تم تشييدها برأسمال سعودي في القاهرة، باعتبارها عمارة شرسة ومتوحشة فيها كثير من البذخ وعدم مراعاة جمالية الواقع المحيط بها.
مؤسف أن يُعتبر عربياً الاحتلال الإسرائيلي أقل منك خطورة (هذا ما ذكره الغيطاني، معتبراً ثقافتنا هي الأخطر، طبعاً على اعتبار أنه يسمي ثقافتنا وهابية وهي ليست كذلك)، وإيراد المقارنة نابع من كراهية دفينة لا أرى لها تفسيراً آخر.
فترة السبعينات كانت المملكة في طور البناء والنمو والتحديث، ولم يكن هناك ما يسمى بهذا المد أو الصحوة المتوترة، وحتى أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتسمون ببساطة وطيبة وسلام لا يصدق، يطلق أحدهم تنبيهاً في وقت الصلاة ويمضي، ولم يكن هناك تداخل بين عملهم وعمل جهات أخرى كالشرطة أو الإعلام أو حتى التعليم.
المجتمع النسوي السعودي كان أكثر بساطة وأقل تعقيداً، وعلاقتها بالرجل ليست تلك الموحشة كما هو الآن، وبالتالي لا أفهم معنى أن تعود أجيال مصرية متعلمة من السعودية وهي مغلفة بدين متطرف وبظرف سنوات قليلة، مع أننا نتحدث عن مجتمع مختلف يصعب أن تندمج معه مجتمعات عربية ببساطة، كون أن هناك اختلافات في العادات والتقاليد عدا عن أن معظم الجاليات عادة ما تنكفئ على بعضها.
من قرأ الثلاثية للروائي الراحل المصري نجيب محفوظ يلاحظ أنه في الجزء الثالث منها (السكرية) خصص فصولاً للإخوان المسلمين وصراعهم مع السلطة آنذاك من خلال شخصية عبدالمنعم، ويتزامن هذا مع أخيه الشيوعي أحمد ونشاط الشيوعيين آنذاك. هذه الأحداث غطت الفترة من عام 1934 إلى 1943، أي قبل الثورة المصرية 1952، بل إن كثيراً من القيادات المصرية الدينية، التي هربت بعد اصطدامهم مع عبدالناصر، لجؤوا إلى السعودية، فهل المؤثر هنا السعودي أم المصري؟
الملاحظة الأخرى هي أن دولاً عربية، وبالذات في المغرب العربي، اجتاحها مد ديني متطرف، والكل يعرف أن لا أيدٍ عاملة تذكر من تلك الدول في المملكة، بل معظم مهاجريهم أو عمالتهم تتجه إلى أوروبا، وبالتالي ألم يسأل الباحثون المصريون عن تفسير ذلك المد عدا عن حكاية العمالة في المملكة؟
المفارقة أن الجميع يعرف موقف المملكة من الربيع العربي تجاه مصر، الذي ساندت فيه بداية الرئيس الأسبق حسني مبارك ثم التزمت بخيار الشعب، إلا أنهم وبعد إسقاط الرئيس مرسي فضلوا الوقوف مع الرئيس عبدالفتاح السيسي، وبالأصح ضد حزب العدالة القريب من الإخوان، وهذا يعني صراحة أن المملكة، بعيداً عن مفهوم الوهابية، لا تروج له في مصر، على الأقل في هذه الفترة الزمنية المعاصرة، ومع كل هذا تم تجاهل هذه الخطوة من المملكة.
هذا العرض الدفاعي لا ينفي أن المناهج في السعودية في فترة ما كانت في حاجة إلى غربلة، وحدثت، إنما تفسير التغيير في مجتمع كبير وثري بمكنونه الثقافي كمصر؛ إلقاء بالمسؤولية على جهة أخرى، وتهرباً من إدانة ظروف داخلية واقتصادية وسياسية في مصر حدثت على مدار العقود المتراكمة، منذ الملكية امتداداً بالناصرية انحداراً بعهد السادات ومبارك.
يبدو لي أن قضيتنا الرئيسة هي كيف نداري خطر التطرف، وبخاصة أننا الآن في عصر «داعش»، فمسألة كيف بدأ هذا التطرف يتحملها الجميع، فحتى أميركا لم تستطع، على رغم ثرواتها الهائلة وقوتها الجبارة وتقدمها العلمي الخيالي، أن تسيطر على مجتمعات مجاورة، كدول أميركا الجنوبية، بل إن الاتحاد السوفياتي لم يستطع، على رغم آيديولوجيته الرومانسية، أن يحافظ على وحدة دولته، فما بالك بالتأثير والتغيير لمجتمعات أخرى؟
فرنسا غزت الجزائر واحتلتها 800 عام، فهل استطاعت أن تجعل الجزائر فرنسية الهوى؟ ألم تتحول الجزائر بعدها بعقود إلى جحيم يتم فيه الذبح والسلخ وقطع الرؤوس بسبب تطرف ديني؟
لكل مجتمع قيمه وثقافته التي يحدث فيها نفسه من الداخل، والتأثير إن حصل فهو في القشور، ويحتاج إلى عقود أو قرون لا فترة زمنية يسيرة.
أحمد الحناكي- الحياة السعودية-