متابعات
ولدت «الهيئة العامة للترفيه»، التي تجنّد النجوم وصنّاع المحتوى، للترويج لمسيرة «التحرّر» السعودي في المنطقة، بمشاركة السلطة الدينية «المقلّمة الأظافر» ورعايتها
إذا كانت كل المراحل التاريخية والتحولات السّياسية والاقتصادية المرتبطة بالمجتمعات الإنسانية تحتاج إلى حدث رمزي يختصرها أو لقطة صحافية تؤسّس لها، وتشكّل تأريخاً لصعودها أو انهيارها، كمشهد سقوط جدار برلين عام 1989، أو ضرب برجَي التجارة العالمية في نيويورك عام 2001، فلا يمكن تجاهل عرض أزياء «ألف ليلة وليلة» في السعودية ضمن احتفالات موسم الرياض 2024، بما تضمّنه من مشاركة نجوم عرب وعالميين، ووصلات غنائية داخل بلد الحرمين الشريفين،إذ يمكن القول إنّه مشهد يؤسّس لملامح جديدة للمنطقة العربية والإسلامية.
مشهدٌ يستحقّ التوقف عنده، لا باعتباره يتزامن مع حدوث أكبر إبادة إنسانية يرتكبها العدو الإسرائيلي في فلسطين، ولا مع الحرب على لبنان فقط، وإنما بما يعكسه من تحوّل مجتمعي في السعودية بما تمثله كدولة إسلامية مركزية ودورها الجديد في المنطقة. وهي الدولة نفسها التي قادت، في زمن ماضٍ، التيار الديني لمواجهة المدّ الناصري الشيوعي برعاية أميركية. وكان أي تفصيل يتعلق بتحرر النساء أو بتخفيف القيود الدينية المتشددة في مجالات الحياة والعمل فيها، يتحوّل إلى تهديد لحكم آل سعود من قبل التيّار الإسلامي داخل المملكة، وقد انعكس على شكل «استعصاء» داخل الحرم المكي عام 1979 من قبل تيار متشددٍ اتّهم العائلة الحاكمة بالابتعاد عن شرع الإسلام، ما دفع آل سعود إلى طلب فتوى من السلطة الدينية في المملكة تجيز شنّ هجوم عسكري داخل حدود المسجد الحرام لطرد المتمرّدين بمساعدة كوموندوس فرنسي.
هذه المرة، تأتي احتفالات موسم الرياض من دون اعتراضات تذكر في الداخل، لا على تصاميم إيلي صعب، ولا على رقص وملابس جنيفر لوبيز، وبالطبع لا على غناء سيلين ديون الأيقوني، بل إنّها سجّلت احتفاءً إضافياً بمشاركة الموديل السعودية أميرة آل زهير للمرة الأولى في عرض للأزياء داخل بلدها، بما يمكن اعتباره تتويجاً لسنوات من عمل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بعد عام 2015 على محاربة التيار الإسلامي الإخواني المدعوم من تركيا وقطر داخل بلاده، والذي ترجم على شكل مقاطعات إعلامية واقتصادية مع عدد من البلدان، وصلت إلى حد حصار قطر لمدة ثلاث سنوات قبل تسوية الخلاف بوساطة إدارة ترامب السابقة في ما عُرف لاحقاً بـ «قمة العُلا ». كانت تلك القمة المؤشر الأول إلى رغبة الإدارة الأميركية في البحث عن مشروع آخر في المنطقة بعد حصار وتآكل مشروع الإخوان المسلمين الذي فشل في أن يكون بديلاً للأنظمة السياسية في المنطقة العربية، وقد صارت كلفته أعلى من فائدته على النظام الأميركي.
تُقدَّم حرب الإبادة بوصفها صراعاً بين طرفين
ومع فقدان قطر سيطرتها على الجماعات الإسلامية الإخوانية بعد مرور سنوات على ما عُرف بالربيع العربي، واستعادة الشهيد يحيى السّنوار بوصلة المقاومة الإسلامية الفلسطينية وإعادة توجهيها نحو إسرائيل بعد حرفها لسنوات باتجاه سوريا وإيران، كان لا بد من إعادة لم الشمل السعودي ـــ الأميركي على مشروع جديد يقوم على الترفيه والمال لمواجهة الحركات الإسلامية التي جلبت «التطرف والفقر».
وإذا كان انطلاق بث قناة «الجزيرة» القطرية في الجمعة الأولى من تشرين الثاني (نوفمبر) 1996 على وقع «انهيار المعسكر الشيوعي وصعود الحركات الإسلامية»، قد شكّل جزءاً مهماً من رؤية أمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني بعد توليه الحكم 1995، التي سعت إلى تقديم خدمة إخبارية بعيداً من الرواية غير الرسمية للأحداث في المنطقة بما يتناسب مع مشهد كانت فيه الفضائيات والوكالات الإخبارية الكبرى مثل «بي. بي. سي» و«سي. إن. إن» تسيطر على السرديات، كان على «رؤية» محمد بن سلمان أن تجد منصتها الخاصة في زمن يشهد تراجع هيمنة وسائل الإعلام التقليدية وانحسارها، وانخفاض الثقة بها، والتقدم المتسارع للذكاء الاصطناعي ومنصات التواصل الاجتماعي وعمالقة التكنولوجيا مثل «ميتا» و«غوغل» والمبدعين والمؤثرين للتأثير في التغطية والسيطرة على الروايات الصحافية.
وفي هذا السياق، ولدت «الهيئة العامة للترفيه» التي تجنّد النجوم وصنّاع المحتوى للترويج لمسيرة التحرر السعودي في المنطقة، رافعةً شعارات «لا انحلال ولا تشدد... لا مفجر ولا فاجر» بمشاركة السلطة الدينية «المقلَّمة الأظافر» ورعايتها، ممثلةً بتركي آل الشيخ. إلا أنّ المشروع ظلَّ بحاجة إلى «تعلّم بعض الأخلاق» كما قالت إحدى الفنانات العربيات أثناء حديثها عن «الصناعة السعودية الحديثة» في أحد برامج المواهب التي صارت على رأس اهتمامات الأجندة السعودية في الوقت الحالي. ورغم ما حملته رؤية 2030 من انفتاح للسعودية على مصالحها ومحيطها الحيوي حتى وصلت إلى حد إعادة العلاقات مع إيران وسوريا، إلا أنها تحرص على جعل هذا الانفتاح بمعزل عن حركات المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن تجنّباً للغضب الأميركي.
إذاً ربما «الأخلاق» هو ما يحتاجه مشروع «الترفيه» الذي يظهر بين الفينة والأخرى وجهه الآخر للعالم بوصفه مشروعاً يسعى إلى كيّ الوعي وتمييع القضايا الكبرى كمقاومة الاحتلال والحق الفلسطيني، حيث يتم تقديم حرب الإبادة بوصفها صراعاً بين طرفين، يشكل عبئاً جغرافياً وسياسياً واقتصادياً على المنطقة العربية عموماً وعلى منطقة الخليج التي تتطلع لتكون بوابة لمشروع الولايات المتحدة الأميركية في تشكيل شرق أوسط جديد قابل للازدهار.