سياسة وأمن » حوادث

أن تلد الأم قاتلها!

في 2016/06/29

 لم يرد في أدبيات القيامة الكبرى وأشراطها أن تلد الأم قاتلها، وأعظم ما يقع على الإنسان فيها أن «تضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى»، وأن «يفر المرء من أخيه وصاحبته وبنيه»، إلا إن ما حدث ويحدث اليوم من جرائم إرهابية بحق الوالدين والأقربين لم يكن ليرد على عقل بشر، فهي لا تقع تحت تأثير سكر أو مخدر أو جنون، بل تحت مظلة الدين في إطار مفاهيمه التكفيرية المتطرفة، متجافين قوله سبحانه وتعالى: «وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا».

كل جريمة من هذا النوع الكارثي تعيدنا إلى دائرة الحيرة الضيقة، وتذهب بنا تخميناتنا إلى ما هو أعجب وأغرب، كأن يقع هؤلاء الشبيبة تحت طائلة التحكم عن بعد أو السحر، وقد نسينا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية»، وشبابنا - للأسف - بمعزل عن ممارسة حياته الطبيعية داخل مجتمع طبيعي يتفاعل معه وبه، هذا «الفصام» بينه ومجتمعه يخلق لديه حال انفراد تعرضه للوقوع في فخاخ المصطادين، وهذا مربط الفرس، إذ إن هؤلاء المتربصين المتمثلين في كيان بشع ومشوه يجسده تنظيم «داعش» يعي تماماً المعنى الحقيقي للغنم القاصية، التي يقوم ببرمجتها من خلال تعاليم مكثفة ودقيقة لتصبح مؤهلة لتقمص دور الذئاب المنفردة، ومتى آمنت بتعاليمها وانقادت لإرادتها فلن تتردد لحظة في تنفيذ ما تؤمر به بـ«عماء مطلق».

وبما أننا لم نعد نستغرب العمليات الانتحارية، فلن نستغرب قتلهم آباءهم وأمهاتهم وإخوانهم، وأي عنصر بشري يتحرك على الأرض فور صدور أوامر التنظيم بتصفيته، والعهد الذي بينهم فرض مشمول بالانقياد لا يقبل الجدل، وأدنى تفكير بالنكوص يعني الوقوع في مغبة الخيانة التي يستحق عليها العنصر المبرمج التصفية، لذلك لن نستغرب أن يلجأ أحدهم إلى الشرطة طالباً التحفظ عليه كي لا يقوم بنحر ذويه.

تكمن المشكلة الكبرى في هذا التنظيم أنك لا تستطيع كشف أسماء المنتمين إليه حتى بين عناصره، لذلك لا تعلم من أين وكيف ومتى وممن ستأتي الضربة التالية، كل شيء يصنع في الخفاء، فآلية التجنيد الداعشي ذات تقنية عالية تعتمد على القدرات الخاصة للشباب الصغار في التعاطي مع وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، كما تعتمد على روح الإثارة والتحدي والمغامرة والتجريب والمراوغة التي خبرها هؤلاء الشباب في ألعاب «البلاي ستيشن»، التي تستحث أرواحهم قبل عقولهم لتقبل كل المراهنات التي تفرضها هذه الألعاب.

«داعش» نجح في استغلال هذه التقنية الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي في تمرير بطولات أشبال داعش أو أشبال الخلافة، وعرض قدراتهم الفذة في فنون القتال التي تدربوا عليها ومن أهمها «النحر». شبابنا الصغار ليسوا بمعزل عن هذا التأثر المباشر وهو بمعزل تام عن المجتمع الذي لم يستطع أن يلبي أدنى متطلباتهم النفسية والروحية، ولم يعترف بهم أصلاً كطاقة سريعة التأثر والاشتعال. على سبيل المثال هل قمنا عملياً بدراسة مدى تأثر فتياننا وحتى فتياتنا بالفيلم الوثائقي الدعائي الذي بثه إعلام «داعش» لأشبال الخلافة، وهم يقومون بعملية استعراضية ويفجرون رؤوس الجنود السوريين على مسرح تدمر على مرأى من مئات الرجال والأطفال الذين جلسوا على المدرج الروماني؟ ثم هل توغلنا في قراءة مدى تأثير مشاهد النحر التي يقوم بها أشبال الخلافة برؤوس مرفوعة وبطولة كاملة على شبابنا الصغار؟ هل أجرينا الدراسات اللازمة والفاحصة لمدى تأثير الرسائل الإعلامية الفتاكة التي يبثها إعلام «داعش» المحنك على شبابنا كعمليات التعذيب التي يتعرض لها السنة على أيدي الشبيحة من جهة، وانتهاكات الحشد الشعبي للعزل من أبناء الفلوجة من جهة ثانية؟

هذه الرسائل مفخخة بتحفيز نفسي وروحاني عالٍ جداً، لا يترك لعقول الشباب فرصة للتدبر والتأمل، يتبع ذلك رسائل أخرى تبث المقت والكراهية والاستعداء لكل ما يمت بصله اسمية أو شكلية لهؤلاء، ثم يلحق بذلك رسائل أخرى لكل حكام الدول وشعوبهم المتواطئين على هذا القتل، ثم تتطور عملية الاستحواذ والسيطرة إلى التحفيز على قبول تكفير كل من يقف بالصفوف المعادية لتنظيم «داعش».

للأسف أقولها بمرارة، ليس لدينا مراكز بحث ودراسة محترمة تتحمل مسؤوليتها الوطنية كاملة، وتقوم بتتبع ما يتسرب إلى شبابنا عبر كل المواقع لاكتشاف خطرها والتحذير منها، لم نر أو نسمع جهة بحثية «ما» قامت بتصميم نماذج مقننة علمياً توجه إلى الأسر للإجابة عنها بصدق تمكن الدارسين والمحللين من اكتشاف مواقع الشباب من الخطوط الحمر، لانتشالهم قبل فوات الأوان، وإلى أن يحدث هذا علينا سريعاً من دون مماطلة إعادة برمجة الشباب من خلال مناشط حقيقية، تنتزعهم من الوحدة أو الارتباط بعلاقات عشوائية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. لا أعتقد أننا سنعجز عن ذلك، ما نحتاجه فقط هو وضع خطة استراتيجية تبنى على أساسها هذه البرامج، ويأتي على رأسها تفعيل مؤسسات المجتمع المدني وتأسيس جمعيات نوعية لا تنتمي إلى أي اتجاه سوى خدمة الوطن تسند مهماتها إلى الشباب وحتى الفتيات، ويمكن استثمار بعض المرافق كالمدارس المؤهلة داخل الأحياء للعمل، بحيث يحصر نطاق عملهم من خلال فرق جماعية يقتصر عملها على سكان الحي، كأن يطلب من فريق وضع تصور وآلية معينة تبدأ بتصميم قاعدة معلوماتية عن الحي وسكانه، كما يقوم فريق آخر بتتبع أحوالهم وحاجاتهم، بغية مساعدتهم في إيجاد الحلول المناسبة، وفريق آخر يقوم بالتواصل مع الجهات الداعمة والأخرى المعنية لتقديم العون، وقد تسهم في ذلك حتى جماعة المسجد متى لزم الأمر، ولا ننس الجانب الترفيهي الذي ستوفره إمكانات هذه المباني المدرسية لهم، وبذلك نكون حققنا مجموعة أهداف بركلة واحدة أهمها: إخراج الشباب من عزلتهم التي قد تورطهم بصداقات مشبوهة والحفاظ عليهم من الانجراف وراء الدعوات المضللة، وتدريبهم على العمل الجماعي وإكسابهم مهارات متنوعة تفيدهم في مستقبلهم العملي، وتوفير حزمة من الخدمات الاجتماعية التي نحتاج إليها، وتزويد الجهات المعنية بالإحصاءات اللازمة لعدد سكان الأحياء والمناطق ومعلومات أخرى مهمة عن الواقع الاقتصادي والتعليمي والصحي للمجتمع.

أخيراً علينا أن نثق بقدرات الشباب الذين ضربوا لنا أروع الأمثلة في التضحية في عدد من الأزمات، ولن ننسى ما فعلوه في غرق جدة، ألا يستحق هؤلاء المأزومون بواقعهم أن ينظر إليهم بعين الاحترام والتقدير.

محمد المزيني- الحياة السعودية-