انفجار قرب القنصلية الاميركية في جدة ليل الرابع من تموز، لم يكن ليوحي بتزعزع الأمن في مملكة السعوديين، كون التفجير الانتحاري لم يؤدي الى وقوع ضحايا وكان بعيداً نوعاً ما عن مبنى القنصلية. كل شيء كان يبدو جيداً حتى مساء اليوم التالي الاثنين الخامس من تموز.
تفجيران متزامنان في القطيف والمدينة المنورة، وقتامة المشهد كانت تشبه لون سحب الدخان المتصاعد قرب أحد الأسوار الملاصقة للحرم النبوي. الصورة التي تناقلتها وسائل الإعلام المحلية والعالمية، وحتى مواقع التواصل الاجتماعي، أصابت مفخرة آل سعود حول معزوفة الأمن والأمان في مقتل. الإعلام السعودي وبسرعة قلّ نظيرها، استنفر لتغطية الحدث وإبراز هول الجريمة التي طاولت مسجد وضريح رسول الاسلام، حيث يفترض أنّ المسلمين قاطبة – أياً كانت مذاهبهم ومشاربهم – متفقون على حرمة التعرض له ولأمن الزائرين والمصلين فيه. ما هي إلا ساعات وتصدّر المشهد ولي العهد السعودي وزير الداخلية محمد بن نايف بعد طول غياب، متنازلاً من «عليائه» وبعده عن وسائل الإعلام، للحديث مع المصابين من العناصر الأمنية جراء الحادث. كان لافتاً عودة ابن نايف للحديث عن الأمن الذي وصفه بأنه بخير قائلاً: «أمن الوطن بخير وهو في أعلى درجاته». ظهور ابن نايف وتطميناته لم تكن لتطمئن تخوفات السعوديين لما ستحمله الهجمات القادمة في المستقبل، حيث أن عامة الشعب تعلم ولكن لا تعبّر علناً عن تخوفها جراء ضربات الغول الذي أخذ يضرب في مدن ومناطق بيئة تربّى في أحضانها ودعمته وغذّته بفكرها.
خرجت بعض السيناريوهات التي تحدثت عن تشكيك بظروف الهجوم الذي استهدف الحرم النبوي، فالنظام السعودي لم يظهر جثة المنفّذ، وتقنياً تعامل مع الحادث وكأنه هجوم روتيني تنفذه جماعات كالقاعدة وداعش، مغفلين رمزية المكان وأهميته لكافة مسلمي العالم، دون أن تنسى وزارة داخلية ابن نايف أن تعنون في بيانها الذي أصدرته أن منفذ عملية الحرم النبوي لديه سابقة تعاطي المخدرات (للإيحاء بأن المجرم لوثت عقله المخدرات وليس الأيديولوجيا الوهابية)، ومنفذ عملية القطيف لديه سابقة «المشاركة في تجمعات غوغائية تنادي بإطلاق سراح موقوفين» في تصويب على المطالبين بإطلاق سراح ذويهم المعتقلين في سجون المباحث، لتبرير النظام وأتباعه أن المشاركة في التجمعات التضامنية مع المعتقلين تنتج إرهابيين خطرين. بغضّ النظر إن صدقت رواية الداخلية أو لا، فإن الأكيد والثابت أن النظام السعودي استفاد من الهجمات الإرهابية، وخاصة هجوم الحرم النبوي. أظهر النظام للداخل ثم للعالمين العربي والإسلامي أنه ضحية، مستعطفاً مسلمي العالم كونه المؤتمن على حماية الحرمين والمقدسات، في وقت يتغول فيه تنظيم داعش وتنتشر أخبار إجرامه حول العالم. لم تتبنَّ داعش الهجوم كما عادته عقب أي عملية، لكن الداخلية السعودية أعلنت أن التنظيم يقف وراء الهجوم، وحددت أنّ التخطيط وأمر العمليات صدر من قيادة داعش في الرقة في سوريا. وهنا يمكن ربط الإعلان السعودي هذا بعودة التصريحات السعودية على لسان أحمد العسيري وعادل الجبير باستعداد السعودية للمشاركة في مهمات قتالية الى جانب التحالف الأميركي على الأرض السورية.
يمكن القول إن النظام السعودي سيستفيد من عملية الحرم النبوي والتحشيد الذي تلاها داخلياً، فهو يمرّ في مرحلة حساسة تتمثل في تصاعد المؤشرات على تنافس محمد بن نايف وابن عمه الطموح محمد بن سلمان. هي فرصة ابن نايف ليعود لتصدّر الواجهة من البوابة الأمنية بعد ضربات قاسية تحت الحزام وجهها له نجل الملك، بدءاً بإعلانه رؤيته 2030 في نيسان وقرارات أبيه الملكية التي ثبّتت رؤيته في أيار الماضي ثم بزيارته الى واشنطن أواخر حزيران الماضي وما رشح عنها من تسريبات ضباط الاستخبارات المركزية والعسكرية الاميركية أن ولي العهد يشارف على الموت، وأن الاميركيين اقتنعوا باستراتيجية ابن سلمان في الاقتصاد والأمن كما جاء في حديث السيناتور الديمقراطي بن غاردن في حديثه لمجلة بلومبيرغ الاميركية، عقب اجتماع ابن سلمان بمجموعة من المشرّعين الاميركيين في الكونغرس خلال زيارته. الهجمات تعدّ فرصة بن نايف لإثبات نفسه من جديد كما فعل قبل عقد عندما واجه خلايا القاعدة، وهو ما أهّله للوصول الى منصبه الحالي اليوم. إضافة الى أنّ ابن نايف يعلم تماماً أن ابن عمّه يعمل جاهداً ويسابق الوقت لكسب رضا الأميركيين عبر إثباته بما لا يقبل الشكّ أنه سيحدث تغييراً في شكل المملكة، وينفّذ الإصلاحات التي تطلبها واشنطن منذ عهد الملك عبد الله. لم يعد الاميركيون – جمهوريون وديمقراطيون – قادرين على قبول السعودية بشكلها الحالي (التقليدي) كحليف، من دون إقدام النظام السعودي على تغيير شكله وتقليص نفوذ التيار الوهابي وتعاليمه التي انتجت وتنتج الارهاب في العالم. رؤية ابن سلمان سوف تزعج شريحة من التيار الديني وقد بدأت بوادر العاصفة في الداخل بالظهور، انتقادات التيار الصحَوي «السروري» (تيار ينسب الى الداعية السوري محمد سرور زين العابدين، أنشأه في السعودية أوائل السبعينيات وهو يقوم على أفكار سلفية – إخوانية، ويجيز الخروج على الحاكم إذا كان ظالماً)
كانت موجودة فيما مضى للنظام وأمرائه ولكن التجربة تقول إن هذا التيار الذي يشكّل قوة موجودة في المجتمع السعودي، سوف يعلو صوته كلما ازدادت عوامل إضعافه وتطويقه والانقلاب على الموروث والثوابت في العقيدة الوهابية. عندما أتى الجيش الاميركي لتحرير الكويت انطلاقاً من الأرض السعودية عام 1991، ثار التيار الصحوي واستمرت تحركاته في الشارع النجدي اربع سنوات، إلى أن طوّقه نايف بن عبد العزيز وأخمد ثورته، وهذا التيار نفسه عندما سيرى أن ما تربّى عليه من موروث وحققه من مكاسب وعمل عليه في دعوته بين صفوف الشباب السعودي، عندما يراه قد بدأ بالضعف والاندثار، وانتقال مقاليده الى حضن التيار الوهابي الاحتوائي (هيئة كبار العلماء وفقهاء البلاط) فإنه سوف يثور ثانية، وهذه المرة سوف لن تكون المعركة على خلفية وجود جنود أجانب بطلب من النظام، بل ستكون معركة وجود بينه وبين الأسرة الحاكمة مدعومة بهيئة كبار العلماء. وهنا يأتي دور ابن نايف في عملية استغلال المعركة التي سوف تنشب بين ابن سلمان والمعارضين ليتدخل أمنياً ويلاحق السروريين بالتوازي مع حربه ضد داعش، الذي يتعاطف معه أتباع التيار الصحوي – كما تعاطفوا مع تنظيم القاعدة - منذ ظهوره، ولكن لأنّ ممارسات داعش تصدّرت الإعلام العالمي ولم يعد بالمقدور المجاهرة بالتعاطف معه يعتمد السروريون التقية عند الحديث عنه.
المعركة في الداخل السعودي التي ذُكرت أعلاه، لا يتمناها النظام السعودي في الوقت الحالي، وهو يتردد كثيراً بإشعالها في الوقت الذي هو غارق حتى أذنيه في حرب ضروس غير مباشرة مع إيران في المنطقة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه بالإضافة الى معارضة التيار الصحوي للنظام في أمور حياتية واقتصادية تتعلق بالممارسات وتوزيع الثروات، يزاود هذا التيار على النظام السعودي في عدائه لإيران وكل حلفائها في المنطقة، ويعيب على السلطة إطلاقها أي إشارة باتجاه بوادر الحل في الإقليم من سوريا الى البحرين واليمن وحتى المعركة ضد داعش في العراق. لعل هذا يعدّ أحد الأسباب التي تدفع الرياض الى الذهاب بعيداً في التصعيد الكلامي والإعلامي ضد طهران لتخفيف منسوب التوتر مع التيار الصحوي داخل السعودية واستقطاب أكبر قدر من التأييد الشعبي للسلطة المركزية في خطواتها المستقبلية. ومن هنا يمكن فهم أحد الأسباب الرئيسية لتصريحات تركي الفيصل في مؤتمر «منظمة خلق» في باريس، فهجومه العنيف على إيران وإعلانه أنه يريد إسقاط نظامها، لا يمكن فصله عن الحملة الإعلامية المكثفة للإعلام السعودي على طهران قبل بدء المؤتمر بأيام، وبالتالي إعطاء جرعة جديدة من المسكنات للتيار الصحوي الذي ينتشي من هكذا تصريحات ومواقف.
علي مراد- الاخبار اللبنانية-