طبعت فاجعة منى في مثل هذه الأيام المباركة بالحزن والأسى لفقدان الآلاف من حجاج بيت الله الحرام (لم يعلن عن رقم رسمي ونهائي). ولعل ما ضاعف الأسى وجيّش الغضب في نفوس أهالي الضحايا، الصورة المشوّشة وعدم الوضوح والضياع الذي برز كعنوان أول للحادثة، قبل أن تتكشف الأمور على كارثة شكلت صدمة في آلية التعاطي وتحمّل المسؤولية وغياب الشفافية، بما لا يليق بمكانة الحج والحجيج والاستعدادات المفترض وجودها.
بعد عام على الفاجعة، لا بد من تسليط الضوء على مسائل أساسية:
1 ـ إن الإدارة السعودية في الفاجعة افتقرت بشدة إلى الشفافية، لا بل إن سياسة التعمية والالتفاف والضبابية، وعدم إعطاء المعلومات هي السائدة، وذلك ينتج من بعدين، الأول أن هناك تقصيرا فادحا في التعاطي وعدم جهوزية عملية لمواجهة أي طارئ بهذا الحجم، وعدم القدرة على التحكم والسيطرة بالرغم من كل الجهود المبذولة. والثاني: أن هناك حالة من القصور، بحيث إن الفريق الذي يدير الخطط التي توضع وكل الإمكانات المادية والبشرية، غير قادرة من الناحية المبدئية أن ترقى بعملها إلى مواكبة ما يجري، ولذلك فإنه من الطبيعي أن يحصل ما حصل وأن يتكرر كل فترة إن لم يكن في كل موسم حج.
ولأن العملية لم تجر بشفافية ولم يخرج علينا أحد ليسهب في شرح ما جرى والعيوب والإصلاحات لتلافي المسألة مستقبلاً، فإننا أمام تساؤلات مشروعة حول ما يثار من دعوات إلى وضع خطة دولية إسلامية لإدارة شؤون الحج بما هو تعاون يحفظ الناس ويرقى بالعمل إلى ضمان السلامة العامة، التي لا يبدو أنها تشكل عاملاً حاسماً لدى المشرفين، وإلا لكان لديهم كلام آخر، فإلى متى يبقى استنزاف الحجيج في حيواتهم ونسبة ذلك إلى القضاء والقدر.
2 ـ كشفت الصور التي استطاع بعض الحجيج نشرها حول ما جرى، في لحظة الاكتظاظ والتدافع، الأخطاء التي قد تكون حدثت في تحويل مجرى السير، أو في ما تحدث عن مرور لوفود وأمراء، وفي طرق المعالجة والإسعاف والنقل، فالمبكي أنه تم التعاطي مع حجاج بيت الله كالأضاحي وتم نقلهم بالجرافات وتكديسهم كبضاعة في كونتينرات، وعدم التدقيق في الأحياء من الأموات حسبما بات مؤكداً بالأدلة وما تناقله الحجيج ومن كانوا في الموقعة وفقدوا الأحبة و...
إن سياق ما جرى يكشف بوضوح عدم وجود أي قيمة فعلية للإنسان كفرد وتحوله في هذه الفجيعة إلى أكوام تدفن على غير هدى، أي بمعنى آخر لو أن هناك فعلاً وضمن ثقافة من هو قائم على الأمور ومن يضع الخطط التنفيذية أي اعتبار لقيمة الفرد ومشبع باحترام الخصوصية الإنسانية لكانت المأساة انحصرت في موت الحجاج وليس في متاهات قتلهم مرات ومرات في عدم احترام فرديتهم وإنسانيتهم وإيضاح ما جرى بدقة والتعهد بالمعالجة وعدم التكرار، وهذا ما لم يحصل.
3 ـ أن تحصل فاجعة وأن يسقط حجاج أبرياء وأن تكون نتائج التعاطي كارثية بكل معطياتها فهذا أمر معروف، لكن أن تنتقل الأمور إلى مرحلة من ضيق الصدر وعدم القدرة على احتمال أي نقد، إلى مرحلة عرقلة حج كل بلد رفع صوته واعترض على طريقة التعاطي مع فاجعة منى، هذه الدول التي تحترم حجاجها أحياء وأمواتا وتحترم تراثها الإنساني والإسلامي، تم العمل على الانتقام من كشفها لفداحة التقصير، بمنع حجاجها من القدوم إلى الحج تحت عناوين مضللة (هذا ما جرى مع دولة إيران الإسلامية) لا تتوافق مع مقاصد الحج الإسلامي السامية، وتشكل ثغرة كبرى في مدى أهلية مصداقية الإدارة الحالية القائمة على شؤون الحج ومن وراءها والقيام بهذا الأمر الخطير بحق المسلمين بأي شكل من الأشكال.
4 ـ إن الآلام التي تحمّلها أهل الضحايا والمرارات، في المرحلة التي تلت ونتيجة الاستخفاف وإدارة الظهر، يبدو أنه يشكل ثقافة متوغلة بعدم التركيز على احترام النفس الإنسانية قصداً، وهذا ما يمكن تلمسه من خلال ما يجري اليوم في اليمن من قصف المدنيين من مرضى وأطفال ونساء وبعثات دولية وأسواق وتمزيق أجساد المئات بالغارات الحربية من دون أي رادع أو إحساس بالمسؤولية، وبكل وضوح من دون أن يرف لهم جفن، بل بالاندفاع نحو تهديد الأمم المتحدة بقطع الأموال عنها بعدما ضبطهم متلبسين بدماء الأبرياء، فهل هذه المشهدية كافية لنفهم ما جرى وأين يقع في منظومة الاهتمام بحيث يبدو الموت بحادثة موت ثانوياً لا ينبغي الوقوف عنده، ما دام الموت القصدي يتم تجاوزه، فهل للكلمة معنى أم يتجاوزها النفط وعبيده الأحياء الأموات؟
غالب ابو زينب- السفير اللبنانية-