خالد سلامة- DW- عربية-
الأزمتان مع ألمانيا وكندا أعطت الدبلوماسية السعودية قدراً يسيراً من الثقة بالنفس وأكسبتها بعض النقاط. غير أن اختفاء الصحفي جمال خاشقجي ومن ثم الإعلان عن مقتله أرجع الرياض إلى مواقع الدفاع. هل أخطأت المملكة في حساباتها؟
منذ اندلاع أزمة الصحفي السعودي جمال خاشقجي، وخاصة بعد إعلان مقتله في القنصلية السعودية في إسطنبول، تهب الرياح الغربية على المملكة العربية السعودية مثقلة بمطالب بتوضيح ملابسات الحادث وإجراء تحقيق شفاف، ودعوات لطرد دبلوماسيين سعوديين، ونداءات لحظر تصدير السلاح. ورفعت بعض الأصوات سقفها ليصل حد المطالبة بالمقاطعة الاقتصادية وبتنحي ولي العهد محمد بن سلمان عن منصبه.
نهج دبلوماسي جديد
التطورات الآنفة الذكر جاءت بعد حادثتين أشارتا إلى تغير في تعاطي السعودية مع الغرب. فقبل شهرين اندلعت أزمة دبلوماسية غير مسبوقة مع وكندا بعد تغريدة للسفارة الكندية طلبت فيها "الإفراج الفوري" عن ناشطين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان معتقلين. وردّت الرياض بطرد السفير الكندي واتخذت سلسلة تدابير ضد كندا بينها تعليق العلاقات التجارية. آنذاك لم تعبر أي دولة غربية كبرى بما فيها الولايات المتحدة - وهي حليف رئيسي للسعودية- علناً عن أي دعم لكندا في أزمتها مع السعودية.
وقبل أقل من عام أججت تصريحات لوزير الخارجية الألماني السابق زيغمار غابرييل التوتر مع السعودية. غابرييل اتهم المملكة بانتهاج سياسة تتسم بـ"روح المغامرة" في الشرق الأوسط، وذلك على خلفية أزمة رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري والمشاركة في حرب اليمن. ودفعت التصريحات الرياض إلى سحب سفيرها واستبعاد الشركات الألمانية من أعمال خصوصاً في قطاع الصحة المربح. ولم تنتهِ الأزمة إلا قبل أيام بعودة السفير إلى برلين. واليوم الاثنين استدعت وزارة الخارجية الألمانية السفير السعودي لديها لمناقشة قضية خاشقجي معه.
وصف بعض المحللين السياسيين ما تقوم به السعودية بأنه "تهور" و"اندفاعية". خطار أبو دياب أستاذ العلاقات الدولية في جامعة السوربون يرى في تصريح لـ DW عربية أن الدبلوماسية السعودية قد تغيرت في عيون الغرب؛ تعود العالم على مملكة "هادئة" في علاقاتها الخارجية.
أما المحلل السياسي والأستاذ الجامعي عادل اللطيفي فيرى أن الدبلوماسية السعودية اتسمت مؤخراً بـ"التخبط من حيث غياب الهدف الاستراتيجي وبعض التطرف، ليس بالمعنى الأمني، بل من حيث عدم إتاحة مساحات للحوار".
أقصى مدى لرد الفعل الغربي؟
أمس الأحد أصدرت كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا بيانا مشتركاً أكدت فيه ضرورة أن توضح السعودية ما حصل لخاشقجي داخل القنصلية بشكل "مدعم بالوقائع لكي يتم اعتباره ذي مصداقية".
واليوم الاثنين دعا وزير الاقتصاد الألماني بيتر ألتماير الأوروبيين إلى تعليق أي عقد تسليح جديد مع السعودية ما لم تكشف حقيقة ما حدث حول مقتل خاشقجي، مؤكداً أن الرياض "لن تتأثر ما لم تتفق جميع الدول الأوروبية على ذلك". وأوضح "لن يكون هناك أي تأثير إيجابي إذا أوقفنا وحدنا الصادرات واستمرت الدول الأخرى بسد النقص". وصدرت دعوات مماثلة من بلجيكا وكندا ودول غربية أخرى.
خطار أبو دياب يعتقد أن أي خطوات قد تتخذ ضد السعودية ستبقى "رمزية" وخصوصاً لتزامن ذلك مع بدء سريان العقوبات النفطية على إيران.
أما عادل اللطيفي فيرى في حديثه مع DW عربية أن الأمور قد تذهب "أبعد" من الرمزية، مذكراً بمقاطعة البلدان الأوربية لمؤتمر "مبادرة مستقبل الاستثمار" المقرر انطلاقه غداً الثلاثاء في الرياض. وألغى العشرات من المسؤولين ورؤساء الشركات العالمية الكبرى، على رأسها الغربية، مشاركتهم في المؤتمر الذي ينظمه الصندوق السيادي السعودي (صندوق الاستثمارات العامة) تحت اسم "دافوس في الصحراء"، بينما أعلنت أستراليا انسحاب ممثليها من المؤتمر. هذا في وقت لم تظهر شركات من الصين وروسيا أي اهتمام بالانسحاب من الحدث، حسب أحد المنظمين.
ويبلغ قيمة صندوق الاستثمارات العامة أكثر من 250 مليار دولار وتهدف الحكومة لجعله الأكبر من نوعه في العالم بحلول العام 2030. ويقول الباحث في معهد "العلوم والسياسة" في برلين شتيفان رول أن السعوديين يسعون من خلاله إلى "شراء" النفوذ السياسي في الدول الغربية.
تصدير السلاح والقيم الأوروبية
والشهر الماضي وافقت ألمانيا على تصدير أسلحة بقيمة 416 مليون يورو (480 مليون دولار) إلى السعودية للعام 2018. وفي الماضي كانت الصادرات العسكرية الألمانية إلى السعودية تقتصر على قوارب الدوريات. ويعد حجم صادرات الأسلحة الألمانية إلى السعودية ضئيلاً بالمقارنة مع نظرائها الأوروبيين وفي مقدمهم المملكة المتحدة وفرنسا اللتان أشارتا إلى عدم رغبتهما بإعادة النظر في سياساتهما، معتبرتين أنها صارمة بما فيه الكفاية.
أما اللطيفي فيشدد على ضرورة التميز بين الموقفين الغربيين: الأوروبي القائم على القيم، وموقف ترامب القائم على المصالح. وقبل أيام قال ترامب إن أمريكا "ستعاقب نفسها" إذا أوقفت بيع السلاح للسعودية، مشيراً إلى أن المملكة ستشتري وقتها من الصين وروسيا.
الصحافة الألمانية تناولت صادرات السلاح إلى المملكة رابطة إياها ب قضية خاشقجي. فقد دعت صحيفة "ميتل بايرشر تسايتونغ" إلى إيقاف تصدير السلاح "الغربي" إلى السعودية لأن ذلك مسألة تتعلق بمصداقية القيم الأوروبية المشتركة، على حد تعبيرها.
ومن جهتها اتهمت صحيفة "ميتل دويتشلاند تسايتونغ" الأوروبيين والأمريكيين بغض الطرف عن تصرفات السعودية الداخلية والخارجية وذلك سعياً وراء مصالح نفطية ومواد خام أخرى.
بينما اعتبرت صحيفة "راين-نيكر تسايتونغ" أن برلين لا تستطيع منع واشنطن من تصدير السلاح للسعودية ولكنها يمكنها هي التوقف عن فعل ذلك.
على خطى إيران؟
التغير في السلوك السعودي خارجياً في السنوات الأخيرة طرح السؤال التالي: هل ستصبح السعودية "إيران ثانية": دولة "مشاكسة" و"مارقة" كما يصف البعض دولة الملالي؟ خطار أبو دياب يرى أن السعودية "لاحظت" أن العالم يتعامل مع قوى مشاكسة كإيران بمرونة وأريحية أكبر. ومن هنا يأتي لجوء السعودية للتشدد في دبلوماسيتها، والكلام دائماً لخطار أبو دياب.
غير أن اللطيفي يرى أنه لا يمكن المقارنة بين الدولتين: "لإيران ظهر يحميها متمثلاً بروسيا وإلى درجة أقل الصين. ومن هنا تقوم بمغامرات إقليمية"، معتبراً أن السعودية ليس لديها حليف خارجي حقيقي تعوّل عليه. ولكن ماذا عن ترامب؟ الرئيس الأمريكي، حسب اللطيفي، تاجر وتتسم سياسته بالشطحات والتقلبات.