علاء بيومي- العربي الجديد-
ينتظر العالم اكتمال التحقيقات التركية (والأميركية) في حادثة مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول في الثاني من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.
وما سيترتب على تلك التحقيقات من إجراءات، خصوصاً من الولايات المتحدة، والتي هدّد رئيسها، دونالد ترامب، مرات بعواقب وخيمة وعقاب شديد، لو ثبت مقتل خاشقجي وتورّط مسؤولين سعوديين كبار في الحادثة.
والواضح أن ترامب واقعٌ تحت ضغط كبير، خصوصاً من كبار أعضاء حزبه الجمهوري في مجلس الشيوخ، والذي وقع أعضاء فيه خطاباً رسمياً يفرض على الرئيس إجراء تحقيق في القضية. وتحت ضغط الإعلام الأميركي كذلك، والذي أفرد مساحة كبيرة لتغطية القضية.
وذلك رغم سعي ترامب المتكرّر للتملص من أي مطالب بعقاب المملكة، مثل وقف تصدير الأسلحة أو التعاون الاستخباراتي في حرب اليمن.
فقد كرّر ترامب حرصه على تحالف بلاده مع السعودية لأسباب مالية، مؤكّداً أن قادة المملكة وعدوه باستثمار نحو نصف تريليون دولار لشراء أسلحة ومشاريع اقتصادية، وهي صفقة تعد الأكبر في التاريخ كما صرح ترامب للإعلام.
وبغض النظر عن طبيعة العقوبات التي قد يفرضها ترامب على السعودية إنْ فُرضت، يمكن القول إن الأزمة ألحقت بالفعل خسائر فادحة بالسعودية على الساحات الدولية والإقليمية والداخلية.
أولها اقتصادي، حيث أعلن عدد كبير من رجال الأعمال ووزراء الاقتصاد الغربيين انسحابهم من حضور مؤتمر اقتصادي، تنوي المملكة عقده اليوم في الرياض تحت عنوان "دافوس الصحراء"، وتعول عليه كثيراً في جذب الاستثمارات الدولية الضرورية لتحقيق رؤية ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، لتطوير بلاده اقتصادياً وتقليل اعتمادها على النفط. وفي مقدّمة المنسحبين وزراء الخزانة الأميركي والتجارة البريطاني والاقتصاد الفرنسي، ومديرة صندوق النقد الدولي.
وتبدو المشكلة أكبر من انسحاب كبار رجال الأعمال الغربيين من مؤتمر اقتصادي، إذ تفيد أحدث الإحصاءات الاقتصادية عن الأوضاع في المملكة بأن السعودية تواجه صعوبات كبيرة منذ عامين في جذب الاستثمارات الأجنبية، أو في إقناع المستثمرين في المملكة بالفعل على البقاء فيها.
ففي عام 2017، لم تدخل المملكة استثمارات أجنبية مباشرة سوى بقيمة 1.4 مليار دولار فقط مقارنة بمبلغ 7.5 مليار دولار في 2016. كما بلغت رؤوس الأموال المغادرة المملكة في 2017 ما يعادل 5% من إجمالي الناتج القومي السعودي، مقارنة بنسبة 2% خلال 2016.
ويرتبط تراجع الاستثمار بالمملكة وخروج رؤوس الأموال منها إلى حد كبير بقلق المستثمرين من سياسات ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، خصوصاً تجاه رجال الأعمال، إذ سبق أن اعتقل العشرات من أكبر رجال الأعمال السعوديين بدعاوى تتعلق بمحاربة الفساد، ومن دون محاكمات.
وهي سياسات عمّقت مخاوف رجال الأعمال الأجانب من توجهات السعودية الاقتصادية، ومدى استقرارها وقدرتها على تحقيق انفتاح اقتصادي جاد ومؤسسي.
وقد يمثل هروب رؤوس الأموال الأجنبية ضربة مؤثرة لخطط ولي العهد لتطوير الاقتصاد السعودي، خصوصاً أن السعودية تواجه نزيفاً اقتصادياً بسبب حرب اليمن.
تتعلق الخسارة الثانية بفشل حملة العلاقات العامة التي أطلقها ولي العهد في الولايات المتحدة وحول العالم منذ صعوده إلى الأضواء السياسية.
وهي حملةٌ عوّل عليها بن سلمان، وعوّلت عليها المملكة وشركاؤها الإقليميون والدوليون كثيراً، لدعم أركان الحكم الجديد، خصوصاً بعد تخلص بن سلمان سياسياً من ولي العهد السابق، محمد بن نايف، وكبار منافسيه في العائلة المالكة.
أنفقت المملكة، وحلفاؤها الإقليميون كالإمارات، والدوليون مثل بعض قوى اليمين الأميركي ولوبيات النفط والسلاح وإسرائيل، كثيراً من رأس المال الاقتصادي والسياسي في هذه الحملة.
ويبدو أن تصفية خاشقجي في قنصلية بلاده بأساليب وحشية قضى على تلك الصورة تماماً، وبنى بدلاً منها صورة شديدة السوء لولي العهد السعودي، دفعت سيناتوراً جمهوريًا محافظاً مقرّباً من ترامب، ليندسي غراهام، إلى مطالبة بن سلمان بالرحيل عن الحكم.
ودفعت أكبر الحكومات الغربية، كفرنسا وبريطانيا وألمانيا، إلى إعلان وقف زياراتها السياسية للمملكة حتى اتضاح ما حدث في قضية الصحافي السعودي.
وليس من المبالغة القول إن صورة السعودية الدولية تعرّضت، بسبب أزمة خاشقجي، لأسوأ ضربة لها منذ هجمات "11سبتمبر" في العام 2001، والتي شارك فيها 15 مواطناً سعودياً.
بل إن الضرر الذي ألحقته قضية خاشقجي بصورة المملكة، وخصوصاً ولي العهد، ستصعب إزالته في سنواتٍ.
فقد دمر تقريباً كل ما قامت به المملكة من جهود لتحسين صورة ولي العهد السعودي والنظام والسياسات الجديدة، وتصويرها بالحداثة والانفتاح والتطوير. ووضعت مكانها صورة سلبية للغاية، تتصف بالتهور والوحشية والاستبداد المطلق.
ثالثاً: أضرت الأزمة كثيراً بالتحالف الأميركي السعودي، والتعويل الغربي على القيادة السعودية الجديدة للمنطقة. وهنا تجب الإشارة إلى أن السعودية، بإمكاناتها المالية والسياسية، مثلت ركيزة أساسية لتحالفات الولايات المتحدة والغرب في المنطقة خلال العقود الأخيرة.
وقد وضعت إدارة ترامب آمالاً كبيرة على تحالفها مع السعودية، خصوصاً وأن الإدارة تستعد لمواجهة كبرى مع إيران، وتحاول إعادة تشكيل المنطقة في ظل ما يُعرف بصفقة القرن. وكانت تعوّل كثيراً على القيادة السعودية، وخصوصاً محمد بن سلمان، في تلك السياسات في ظل علاقته الوثيقة بترامب وصهره غاريد كوشنر.
ويبدو أن الأزمة قوضت ثقة صناع القرار الغربيين في محمد بن سلمان وقدراته القيادية، وهو ما يفسّر سر الغضب الجارف تجاهه، فهو غضب يتعدّى السخط على قتل صحفي بشكل وحشي.
فمتابعة ردود الفعل الغربية، وخصوصاً تصريحات أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، توضح مدى إحباطهم من بن سلمان، الذي يقود بلاده من سياسة خاطئة إلى أخرى.
وتتحدث عن حرب اليمن، وأزمة الخليج، واحتجاز رئيس الوزراء اللبناني، والصدام مع رجال الأعمال السعوديين، واعتقال المعارضين بما في ذلك المطالبين بحقوق المرأة، والقائمة تطول.
ومثلت حادثة مقتل خاشقجي، في قنصلية بلاده بوحشية، وبحجم كبير من الأخطاء التي تنم عن تهوّر وعدم تقدير لعواقب الأمور، القشّة التي قصمت قدرة من عوّلوا على محمد بن سلمان وعلى الثقة فيه.
وقد أشار إلى ذلك بشكل صريح السيناتور ليندسي غرام، الذي قال إنه طالما دافع بقوة عن السعودية وسياساتها، لكنه لم يعد يستطيع أن يفعل ذلك بسبب شخصية بن سلمان.
رابعاً: أضرّت الأزمة كثيراً بالمكانة الإقليمية والدولية للمملكة، حيث يمكن القول إنها قامت بتحجيمها كثيراً، فالانسحاب السياسي، الأميركي والغربي التدريجي، من المنطقة، بعد الخسائر المترتبة على غزو العراق، أعطى دوراً أكبر للدول الحليفة للغرب، وفي مقدمتها المملكة والإمارات، في إدارة شؤون الإقليم.
وهو ما سمح لها باتخاذ سياساتٍ غير مسبوقة، كحرب اليمن تحت غطاء غربي واضح. ومنذ مشاركة السعودية والإمارات في الانقلاب العسكري في مصر، وهزيمة الربيع العربي، ومع صعود إدارة ترامب، باتت سياساتهم أكثر تهوّراً.
لكن أزمة خاشقجي، وما تلتها من تهديدات أميركية بعقاب المملكة، وما سبقها من مطالب من ترامب للسعودية لدفع مزيد من الأموال مقابل الحماية، أعادت التذكير بحقيقة أن المملكة دولة إقليمية تعتمد كثيراً على دعم حلفائها الدوليين الذين يمدّونها بالسلاح والحماية السياسية.
وأنها ذات نظام سياسي له طبيعة خاصة، يفتقد المؤسسية والظهير الشعبي، ما يجعله أكثر قابلية للضغوط الخارجية وربما التحجيم.