صباح نعوش- البيت الخليجي-
تسهم النفقات العسكرية مساهمة فاعلة ومباشرة في عجز الميزانية العامة وما يترتب على ذلك من هبوط الاحتياطي النقدي وتصاعد الديون العامة.
من نتائج هذا العجز أيضاً الاعتماد المتزايد على الضرائب فيهبط مستوى معيشة المواطنين. كما استطاعت الولايات المتحدة استغلال التوتر العسكري في منطقة الخليج لا سيما الخطر الإيراني لرفع مطالبها المالية مقابل حماية السعودية.
العجز المالي
عندما وضعت النسخة الأولى من رؤية السعودية 2030 كان الهدف تحقيق التوازن المالي بحلول عام 2019. ولأسباب عديدة في مقدمتها ارتفاع الإنفاق العسكري جرى تعديلها فظهر “برنامج تحقيق التوازن المالي. تحديث 2019” الذي ينص على بلوغ هذا التوازن في عام 2023. وهكذا وصل حجم العجز المالي للعام الجاري 2019 إلى 131 مليار ريال. علماً بأن صندوق النقد الدولي (بيان مشاورات المادة الرابعة. سبتمبر 2019. الصفحة 10) يرى بأن الدولة سوف لن تتمكن من بلوغ التوازن المالي في عام 2023.
أفضت إذن النفقات العسكرية إلى نتيجتين:
النتيجة الأولى: هبوط الاحتياطي النقدي. حيث انتقل من 579 مليار ريال في عام 2017 إلى 523 مليار ريال في عام 2018 ثم إلى 496 مليار ريال في عام 2019. وكلما انخفض هذا الاحتياطي ضعفت ثقة المستثمرين السعوديين والأجانب بالسياسة المالية والنقدية للدولة.
النتيجة الثانية: ارتفاع الديون العامة. لم يعد السحب من الاحتياطي النقدي كافياً لتغطية العجز المالي. لذلك تلجأ السلطات العامة إلى الاقتراض من الداخل والخارج. وهكذا ارتفعت الديون من 443 مليار ريال في عام 2017 إلى 560 مليار ريال في عام 2018 ثم إلى 627 مليار ريال في منتصف عام 2019 (وزارة المالية. مكتب إدارة الدين العام). كلما تفاقمت الديون زاد حجم فوائدها. وكلما ارتفعت الفوائد انخفضت الأموال المخصصة لتحسين أحوال المواطنين لتدفع للدائنين.
تشير الإحصاءات السعودية إلى اتجاه العجز المالي نحو الانخفاض رغم ضخامة الإنفاق العسكري. يتعين دراسة هذا الوضع من زاويتين:
الزاوية الأولى: العجز الكلي والعجز الأولي. انخفاض العجز المالي يعود بالدرجة الأولى إلى تحسن العوائد النفطية أي إلى عامل لا علاقة له بالسياسة الحكومية بل بالسوق الخارجية. لذلك يفضل خبراء صندوق النقد الدولي (البيان المذكور أعلاه. الصفحة 7) الاعتماد على مؤشر العجز الأولي بدلاً من مؤشر العجز الكلي. والعجز الأولي هو حاصل طرح الإيرادات غير النفطية من النفقات العامة الكلية. وهكذا تبين لهم أن العجز الأولي ارتفع من 38.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017 إلى 39.5% في عام 2018. في حين أن الإحصاءات السعودية التي تعتمد على العجز الكلي تظهر انخفاض هذا العجز من 9.2% إلى 5.3% على التوالي.
غير أن تقرير الصندوق الذي يشخص بدقة المشكلة المالية ويهتم بوضع الاستنتاجات وتقديم الإرشادات لم يعط العلاج المناسب للأزمة السعودية. فقد كرر عدة مرات ضرورة تقليص الدعم الحكومي الموجه لتعضيد الاستهلاك. لكنه لم يشر إطلاقاً إلى النفقات العسكرية. علما بأن التبعات السلبية للإنفاق العسكري على الصعيد الاقتصادي في دولة كالسعودية اكبر بكثير من التبعات السلبية للدعم.
الزاوية الثانية: العجز المالي والديون العامة والاحتياطي النقدي. من المتعارف عليه أن الدول تعالج العجز المالي بهدف تقليص الديون العامة من حيث حجمها وفوائدها وبهدف منع الاحتياطي النقدي من الهبوط. السياسات المالية للدول النامية والصناعية قائمة على هذا الأساس.
لكن الوضع السعودي مختلف تماما. إذ ينخفض العجز في حين يرتفع الدين العام ويتراجع الاحتياطي النقدي في آن واحد. رؤية 2030 مبنية على هذا الاتجاه. ففي عام 2017 بلغ العجز المالي 238 مليار ريال والدين العام 443 مليار ريال والاحتياطي النقدي 579 مليار ريال. وفي عام 2023 يفترض أن يتحقق التوازن المالي ولكن سيتصاعد الدين العام ليبلغ 893 مليار ريال وسيهبط الاحتياطي النقدي ليصل إلى 332 مليار ريال.
لا يمكن تفسير هذا الوضع بمعزل عن الإنفاق العسكري. الدولة تشتري المعدات المدنية والعسكرية عن طريق القروض والسحب من الاحتياطي. وتمنح مساعدات للدول في إطار “عاصفة الحزم”.
كما أن تزامن هبوط الاحتياطي النقدي وارتفاع الدين العام مع انخفاض عجز الميزانية العامة يعني وجود عجز أو على الأقل تراجع في حسابات ميزان المدفوعات. لم تعد الإيرادات النفطية كافية لتغطية الواردات المدنية والعسكرية ولسد عجز حسابات الخدمات والدخول.
بدأت المشاكل المالية تتخذ بعداً جديداً اعتباراً من عام 2015 لسبب أساسي يرتبط بالصادرات حيث انتقلت حصيلتها من 1283 مليار ريال في عام 2014 إلى 763 مليار ريال في عام 2015. كما لم يتراجع الاستيراد وازدادت مشتريات الأسلحة نتيجة انطلاق التدخل السعودي في حرب اليمن. ولما كانت حسابات الخدمات والدخل الثانوي (تحويلات العمال الأجانب) تعاني عجزاً مزمناً اصبح الميزان الجاري في حالة عجز بلغ 212 مليار ريال. وهذا أمر خطير في دولة نفطية. لهذا السبب اضطرت الدولة إلى السحب من الاحتياطي والاقتراض من الخارج لتمويل العجز. واستمر هذا الاتجاه في السنوات اللاحقة.
ارتفاع العبء الضريبي
أن العجز المالي الناجم عن عوامل عديدة أهمها النفقات العسكرية أدى إلى اهتمام الدولة بالضرائب خاصة غير المباشرة. شهدت حصيلتها تصاعداً مستمراً وسريعاً في السنتين الأخيرتين. ففي السنة الأولى لتطبيق الضريبة على القيمة المضافة 2018 بلغت حصيلتها 45 مليار ريال. ثم ارتفعت إلى 47 مليار ريال في عام 2019. كما شهدت الرسوم على الوافدين (المقابل المالي) تزايداً كبيراً من 28 مليار ريال إلى 56 مليار ريال. ولم تهبط حصيلة الزكاة (الضريبة المفروضة على المواطنين) إلا بنسبة ضئيلة. وبقيت إيرادات الضرائب على الدخل المفروضة على الأجانب مستقرة.
لا شك أن الضغط الضريبي (العلاقة النسبية بين حصيلة الضرائب والناتج المحلي الإجمالي) ضعيف في السعودية مقارنة بالدول الصناعية والعديد من الدول النامية. لكنه ارتفع في الفترة الأخيرة فأثر تأثيراً واضحاً على مستوى معيشة المواطنين والوافدين. انتقل من 3.4% في عام 2017 إلى 6.4% في عام 2018 ثم إلى 7.1% في عام 2019.
أن تزايد الإنفاق العسكري والضغوط الناجمة عن استهداف عام 2023 لتحقيق التوازن المالي أدت بالضرورة إلى تزايد الاعتماد على الضرائب. عندئذ سيستمر الضغط الضريبي في الارتفاع فتتراجع الاستثمارات وتتفاقم البطالة. من هذا الباب هنالك علاقة وطيدة بين ارتفاع الإنفاق العسكري وتردي مستوى المعيشة من جهة وارتفاع الإنفاق العسكري وهروب رؤوس الأموال من جهة أخرى.
مقابل الحماية الأمريكية
ينص اتفاق كوينسي لعام 1945 على ضمان الإمدادات النفطية السعودية للولايات المتحدة مقابل حماية أمريكية “غير مشروطة للعائلة المالكة” وحماية “أقل للسعودية ضد أي تهديد خارجي”. في تلك الفترة كان النفط السعودي يمثل مصلحة حيوية للولايات المتحدة. كما كانت شركة أرامكو أمريكية كليا. لذلك تم عقد ذلك الاتفاق لمدة ستين سنة. وفي عام 2005 تم تجديده لنفس الفترة.
أخذت الحصص الأمريكية في الشركة تضمحل. حيث باشرت السعودية بشرائها تدريجياً حتى باتت مملوكة بالكامل للرياض منذ عام 1980. ثم حدثت تطورات عديدة أثرت بشدة على المبدأ الذي يقوم عليه هذا الاتفاق: الإمدادات النفطية السعودية مقابل الحماية العسكرية الأمريكية. فقد النفط قسطاً كبيراً من أهميته و دوره في اقتصاديات البلدان الصناعية الكبرى. وعلى صعيد الولايات المتحدة ركزت الإدارة الحالية اهتمامها على الاستثمارات لتحريك الاقتصاد الراكد ولتشغيل العاطلين عن العمل. يتطلب الأمر مساهمة سعودية بصورة فاعلة.
ومن زاوية أخرى أصبحت الولايات المتحدة اكبر دولة منتجة للنفط غير التقليدي (النفط الصخري). بلغ الإنتاج الأمريكي درجة أدت إلى تقليص التبعية للنفط السعودي. بل أن الرئيس الأمريكي صرح في سبتمبر 2019 بعدم حاجة الولايات المتحدة لنفط الشرق الأوسط.
وفي نفس الوقت حدثت تطورات في منطقة الخليج تتمثل بتصاعد الخطر الإيراني والتدخل العسكري السعودي في حرب اليمن.
أدى تفاعل هذه العوامل إلى بروز قناعة أمريكية بعدم كفاية ضمان الإمدادات النفطية كمقابل للحماية. وهكذا بدأ الابتزاز الأمريكي الذي أحرز نجاحاً باهرا خاصة في الآونة الأخيرة نظراً لاذعان الرياض. بات التصريح العلني بضرورة دفع المزيد من الأموال لتوفير الحماية أمراً بديهياً لدى الأمريكيين.
في مايو 2017 استطاعت الإدارة الأمريكية ربط السعودية بعقود تجارية قيمتها 340 مليار دولار لمدة عشر سنوات. منها 110 مليارات دولار لشراء الأسلحة (تصريح لمسؤول في البيت الأبيض). وبالتالي ارتفعت النفقات العسكرية السعودية وذلك على عكس ما جاء في بعض التقارير.
لكن الولايات المتحدة ترى عدم كفاية هذه المبالغ لتوفير الحماية للسعودية (خطاب الرئيس الأمريكي بولاية فرجينيا في سبتمبر 2018). وهذه دعوة للرياض بصرف المزيد من الأموال لشراء المعدات الأمريكية.
وهكذا كلما زاد التوتر العسكري في منطقة الخليج ارتفع سقف المطالب الأمريكية لتأمين الحماية وتصاعد بالتالي الإنفاق العسكري السعودي. أصبح الخطر الإيراني وسيلة بيد الأمريكيين لتحسين اقتصادهم. وعلى هذا الأساس تمثل التوترات في المنطقة خسارة فادحة للشعوب في السعودية واليمن وإيران ومكاسب جمة للولايات المتحدة وإسرائيل.
لذلك وعلى افتراض إعلان واشنطن الحرب ضد إيران التي ستقود إلى انهيار النظام الإيراني ستتحمل الولايات المتحدة خسائر مالية من جانبين:
يتمثل الجانب الأول بعودة الاستقرار إلى المنطقة. يترتب عليها هبوط مبيعات الأسلحة الأمريكية لدول مجلس التعاون التي تعد في مقدمة المستوردين. أما الجانب الثاني والأهم فهو كلفة الحرب ضد إيران. فقد دلت التجربة الأمريكية في العراق أن كلفة الحرب لا تعرف إلا في نهايتها بل تمتد لتشمل عدة عقود لاحقة على هذه النهاية.
قبيل احتلال العراق كانت التقديرات الأمريكية تشير إلى أن التكلفة لن تتجاوز 80 مليار دولار. في حين ظهرت تقارير حديثة تبين أن المبالغ تفوق ترليوني دولار. وقد تصل في عام 2050 إلى ستة ترليونات دولار (حساب معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة). لذلك لا يزال النقاش دائراً حول جدوى الاحتلال لعام 2003.
يقولون أن حرباً هدفها إسقاط النظام الإيراني ستكلف أربعة ترليونات دولار (القبس الكويتية والخليج اون لاين وغيرهما. مايو 2019). يستند هذا الرقم إلى تقارير روسية ترى ضرورة استخدام 300 ألف جندي أمريكي وألف طائرة في هذه الحرب. ولما كانت هذه الأدوات العسكرية تمثل ضعف الأدوات التي استخدمت في احتلال العراق ولما كانت كلفة الحرب ضد العراق ترليوني دولار فأن الحرب ضد إيران ستكلف أربعة ترليونات دولار.
استناداً إلى ما تقدم وبالنظر للأزمة المالية والتجارية الأمريكية لن تدخل واشنطن معركة عسكرية ضد إيران إلا بتمويل سعودي. عندئذ قد تتطلب الكلفة تنازل السعودية عن أرامكو لتعود من جديد إلى اصلها. بل وقد تكون القيمة السوقية لهذه الشركة العملاقة البالغة ترليوني دولار غير كافية. أما السعودية فهي غير مستعدة للقيام بهذه التضحية الهائلة إلا إذا قامت إيران بالهجوم المباشر عليها.
ومن زاوية أخرى لم تفرض واشنطن عقوبات اقتصادية بسبب تدخل إيران في المنطقة العربية بل بسبب سعي طهران للحصول على السلاح النووي. ولكن أقحمت واشنطن التخلي عن هذا التدخل في شروطها لإنهاء العقوبات. وهكذا بات تمسكها بضرورة امتناع إيران عن التدخل في شؤون المنطقة أداة جديدة من أدوات الحماية الأمريكية للسعودية. وبالتالي فتحت باباً إضافية لمطالبة الرياض بالمزيد من الإنفاق.
يترتب على التوتر الذي تشهده منطقة الخليج ارتفاع الإنفاق العسكري السعودي وما ينجم عنه من عجز مالي وارتفاع الضغط الضريبي. كما أدى هذا التوتر إلى تصاعد كلفة الحماية الأمريكية للسعودية. بات من اللازم إيجاد حلول سريعة وفاعلة لهذه المشاكل المالية.