لا ترى السعودية مستقبلاً للخطة التي تصوغها واشنطن وموسكو حول سوريا، لكنها قبل ذلك وبعده لا ترى أي أفق من دون رحيل حتمي للرئيس السوري بشار الأسد. لا تغيير في السياسة بل المزيد منها. هزيمة الارهاب، إنهاء «داعش»، حل قضية اللاجئين السوريين، كلها عناوين مرتبطة بإزاحته من السلطة لصالح «مجلس حكم انتقالي». الحل العسكري مطلوب سعودياً لتغيير التوازن في الميدان، بما ينتج الحل السياسي، مع التعويل على أن روسيا ستفضّل مغريات الانفتاح الخليجي على التمسك بالأسد.
تلك الخلاصات حملها وزير الخارجية السعودي خالد الجبير إلى بروكسل، خلال ندوة نقاش مطولة عقدها له مركز «إيغموند» المرتبط بالخارجية البلجيكية الثلاثاء. غير المواقف والتوجهات السياسية هناك أخبار متعلقة بالخطوط العريضة للخطة الأميركية ـ الروسية.
قبلها بيوم التقى الجبير نظيره الأميركي جون كيري، مع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي. في حين لا إعلانات رسمية حول «الخطة الجديدة»، بل تسريبات، كشف الوزير السعودي أن الأمر يدور حول مقايضة تحمي «المعارضة المعتدلة» مقابل تطبيع ميداني ضد الارهاب، لكن على أساس إطلاق عملية انتقال سياسي تنهي حكم الأسد.
المصادر التي اطلعت على مداولات وزراء الخليج وكيري كانت قالت لـ «السفير» أن الرياض تحفظت على الخطة، معلنة رفضها أي مناورة يمكن أن تقود إلى تطبيع مع النظام السوري. جوهر تلك الخطة يؤدي إلى ترسيم للنفوذ بين واشنطن وموسكو، بما يرسّخ خطوط تماس تحت اشرافهما المباشر على الميدان السوري، تحت مظلة مركز تنسيق عسكري مشترك لاستهداف المنظمات الارهابية فقط.
فحوى ما يصوغه الأميركيون والروس وضعه الجبير وفق الشكل التالي: «دعونا نعقد اتفاقاً بحيث نركز على الارهابيين وليس على المعارضة المعتدلة، بالمقابل لا طلعات جوية لنظام الأسد فوق مناطقها، ما يعني بشكل أساسي إنشاء منطقة حظر جوي»، لكنه استشرف الفشل معتبراً أنه «في نقطة ما هو (الأسد) لا يقبل، لقد جربنا كثيراً وأعتقد أننا تجاوزنا ذلك».
ما يمكنه فتح المجال للتسوية برأي الرياض هو إطلاق مسار انتقال سياسي له أفق محدد سلفاً: مرجعية جنيف 1، قرار مجلس الأمن 2254، للذهاب إلى تشكيل «مجلس حكم انتقالي سيدير شؤون الدولة»، ثم «سيكتب دستور جديد» بما يعني أن «الحكم الحالي سينتهي».
علق الجبير على الاستعصاء القائم بالقول «الأسد يرفض هذا المسار، وحتى يقبله سيستمر القتال ويموت الناس»، مشدداً على أنه «لن يكون هنالك بشار الأسد في مستقبل سوريا، يمكننا قول ذلك، دور بشار الأسد انتهى». الوصول لهذا الهدف، بحسب الجبير، سيجعل الحل العسكري خياراً وحيداً أمام من يريد تحقيقه: «حينما كان القتال جارياً في البوسنة قيل إنه لا حل عسكريا ولا تدخل خارجيا بل حل سياسي، ثم تدخل العالم»، قبل أن يستطرد «لا نريد القوة خياراً أول ولا أخيرا، بل علينا أن نكون واقعيين، فهناك أوضاع لن يكون هناك حل سياسي حتى نغيّر التوازن على الأرض ونجعل الأمر واضحا تماماً لبشار الأسد، أنه سيغادر اليوم أو غداً، لذلك ربما اليوم أفضل».
تلك الفحوى كان نقلها الجبير أيضاً خلال مؤتمره الصحافي مع وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فدريكا موغريني، ناقلاً استشرافه فشل المبادرة الأميركية - الروسية بما يجعل البديل الوحيد تصعيد الحرب. قال حينها «هناك محاولات عديدة جرت في الماضي للوصول إلى اتفاق سلمي ولم تنجح، كانت هناك وعود من قبل روسيا متعلقة بسوريا وما سيفعله نظام بشار الأسد لكنه لم يلتزم بها».
جميع المشاكل العالقة، وفق الشروحات السعودية، ستبقى عالقة. الجبير كان يتحدث مخاطباً الأوروبيين، ليقول إن قضية تدفقات اللاجئين أيضاً لن تحل إلا بعودتهم إلى سوريا بعد حل سياسي يزيح الأسد. القضاء على «داعش» أيضاً لن يتم من دون ذلك كما قال: «لن يمكننا التخلص من داعش في سوريا حتى نتخلص من بشار الأسد، ولا في العراق حتى نتخلص من السياسة الطائفية».
تلك هي المسطرة السعودية التي قدمها الجبير، ووفق مقاساتها يمكن مقاربة بقية القضايا. بالنسبة للعلاقات مع روسيا قال إنه يجري اختبار إن كانت ستلعب دور «قوة استقرار» في إطار محاولات، عروض، لتطوير العلاقات الخليجية معها. الخلاف السوري لا يعرقل المضي في ذلك «الاختبار». العروض كما طرحها، من باب شرح المغريات الموضوعة أمام موسكو: «سوق خليجية هائلة، استثمارات هائلة، الصلات بالقطب الاسلامي، التعاون حول النفط»، قبل أن يشير إلى القيادة الروسية مستنتجاً أن «استراتيجياً روسياً، يتحلى بالمنطق، يقول إن كل هذا في صالحنا وليس في صالح بشار الأسد».
تلك المقاربة حكمت أيضاً نظرة الرياض لما يجري في تركيا، كما يقدمها وزير خارجيتها. أكد على أن تركيا تبقى «لاعباً حاسماً لدعم المعارضة السورية»، لذلك برأيه فاستقرارها ضروري، قبل أن يضيف «لا شك أنها ستتجاوز تبعات الانقلاب الفاشل سريعاً، ولن يؤثر ما حدث على المنطقة».
لكن وحدة القياس الرئيسية للمسطرة السعودية تبقى إيران، فيما دمشق وبغداد وحدات فرعية. حملة انتقادات شرسة وجهها الجبير لطهران، مقدماً سردية أنها «منخرطة في دعم الارهاب». أشار إلى علاقة وصلات لإيران بـ «القاعدة»، مدللاً بالوثائق التي استخرجت من مخبأ أسامة بن لادن، كما لفت لوجود «تسجيل كامل لمحادثة لم نكشفها» تؤكد صلات قيادي «القاعدة» بطهران.
تلك الرواية التي واصل الجبير تقديمها بصوته الهامس، كعادته، أزعجت ديبلوماسيا إيرانيا كان في الصالة. ردّ موجها كلامه للوزير السعودي :»يجب ألا ينسى أحد أن أسامة بن لادن كان مواطناً سعودياً، وكانت له علاقات سياسية واقتصادية قوية من داخل السعودية. يجب ألا ينسى أحد أن 15 من بين 19 ارتكبوا هجمات 11 أيلول كانوا مواطنين سعوديين»، قبل أن يستخلص أن «هذا يشرح أي دول دعمت داعش لسنوات».
لم يخف الجبير حنقه على الاتفاق الغربي مع إيران، حول ملفها النووي، معتبراً أن «فكرة إيران معتدلة لم نرها على الأرض بل باتت أكثر عدوانية». ردد، بكل الطرق، أن العدو الأول هو طهران. من كلامه كان واضحاً أنهم غير مهتمين بانهاء حروب الوكالة معها، لا في العراق ولا في سوريا. شاشة النتائج، بغض النظر عن التصريحات والمكابرات، تقول إن سوريا كانت حليفاً مستقراً لطهران فيما هي الآن دول ممزقة، مع سلطة ضعيفة، فيما العراق لا يعيش وضعاً أفضل على الرغم من أن السلطة في يد قوى حليفة لطهران.
أتى الجبير مروجاً لعدم إمكانية الاستغناء عن السعودية، مفتتحاً حديثه ليعرض مزايا قوة مالية ونفطية والقطب الإسلامي الأهم نفوذاً. كان يخاطب العقل السياسي لأوروبا وأميركا، مع توقعات تغيير الاتفاق مع إيران لتحالفات المنطقة. قال إن من راهنوا في ظروف مختلفة على إضعاف السعودية «خسروا تاريخياً». زاد بأن الرياض حليف مجرّب، حقق مع الغرب نجاحات لأهداف مشتركة. الغرب الباحث عن حليف لمواجهة الإرهاب، قال له الجبير، في إشارة لافتة لإجهاض المشروع الوحدوي العروبي بقيادة جمال عبد الناصر، إنه «سننجح في دحر التطرف والإرهاب كما نجحنا في دحر الراديكالية العربية في الخمسينيات والستينيات، وكما نجحنا ضد عالمية الاتحاد السوفياتي في السبعينيات والثمانينيات».
وكالات-