عاصفةٌ من التصريحات الساخنة بدأت تهبّ مؤخراً باتجاه «الجبهة الجنوبية» في سوريا. مضامين هذه التصريحات تشي أن الجنوب السوري مقبلٌ على تصعيد جديد بعد هدوء استمر قرابة العام. الولايات المتحدة لوّحت بفتح جبهة ضد تنظيم «داعش» انطلاقاً من الجنوب. ومندوب سوريا الدائم في مجلس الأمن بشار الجعفري حذَر، أمس الأول، من حشود تقودها «غرفة عمليات الموك» على الحدود الجنوبية. ومع ذلك، تبقى الصورة في الجنوب السوري غامضة وغير قابلة للقراءة من دون الالتفات إلى الوقائع على الأرض، والتي تشير كل الدلائل إلى أنها تشهد إرهاصات انقلاب «جهادي» على فصائل «الجيش الحر»، وسط تسريبات عن جهود قطرية وسعودية تحظى بمباركة تركية لاستلام زمام المبادرة في الجنوب بعيداً عن «معادلة الموك» التي لم تعد قادرة على إرضاء طموحات هذا الثلاثي بعدما خضعت لمفهوم التهدئة طوال الأشهر الماضية.
وكشف الجعفري من على منصة مجلس الأمن، الثلاثاء، أن «غرفة عمليات الموك الموجودة في عمان وتضمّ أجهزة استخبارات عربية وأجنبية وإسرائيلية، تحشد ما بين سبعة إلى تسعة آلاف مسلح داخل الأردن وعلى الحدود مع سوريا، بغية إطلاق هذه المعارضة المعتدلة المتوحشة قريباً باتجاه حدودنا الجنوبية لكي يمارسوا اعتدالهم في قتل الأطفال، وتدمير البنى التحتية للدولة، ومهاجمة الجيش»، متسائلاً «لو حدث هذا في أي دولة ماذا ستسميهم... وكيف ستتعامل معهم».
ويأتي تحذير الجعفري بعد أيام فقط من تلويح وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر بنقل نشاط «التحالف الدولي» المناهض لتنظيم «داعش» إلى الجنوب السوري، بعدما كانت عملياته تقتصر على الشمال والشرق. وقد اثارت تصريحات كارتر موجة من الجدل حول المقصود بها. فالبعض ذهب إلى أنها محاولة أميركية لتعويض الخسارة في حلب، بعد نجاح الجيش السوري في تطويق أحياء المسلحين من خلال سيطرته على طريق الكاستيلو، عبر فتح جبهة جديدة في الجنوب، فيما ذهب البعض الآخر إلى أن التصريحات الأميركة ليس لها اي علاقة بمحافظة درعا، بل هي تستهدف المنطقة الممتدة من الحدود السورية - الأردنية مروراً بمعبر التنف مع العراق ووصولاً إلى دير الزور وتحديداً البوكمال. ويستند هؤلاء إلى أن الوزير الأميركي تحدث عن فصل «مسرح العمليات في سوريا عن مسرح العمليات في العراق بشكل أكبر»، وهو ما يُفهم منه أن درعا ليست ضمن المخطط الأميركي.
ومن الصعب معرفة ما إذا كان كشف الجعفري عن مخطط «الموك» جاء ردّاً على تصريحات كارتر، أم أنه يصب في سياق ثانٍ قد تكون للولايات المتحدة يدٌ فيه أيضاً، كالخشية من وجود مخططات سرية تعمل واشنطن عليها بالخفاء، تكون متكاملة مع خططها المعلنة حول استهداف «داعش».
وأياً يكن الأمر، فإن التحذير الصادر عن الجعفري يشير بوضوح إلى أن الحكومة السورية لا تنظر بعين الرضا إلى التحركات الأميركية، ويبدو أن لديها اسبابا كثيرة تجعلها تقلق من أي مخطط أميركي جديد، بصرف النظر عن مكانه أو توقيته، لأنه قد يكون مجرد غطاء لتمرير أجندتها الخاصة بها والتي يشكل «التقسيم» أبرز مفرداتها. ولا تزال نبرة التشاؤم التي تحدث بها مدير وكالة الاستخبارات الأميركية «سي آي إي» جون برينان حول استبعاده بقاء سوريا موحدة، واحتمال سيطرة بعض الجماعات الايديولوجية على مناطق من البلاد، ترن في مسامع السوريين وتثير لديهم شكوكاً متزايدة حول حقيقة النيات الأميركية بخصوص مستقبل بلادهم.
غير أن المشهد في الجنوب ينطوي على تعقيدات كثيرة من شأنها أن تزيد من صعوبة قراءته، لا سيما في ظل الزلزال الذي ضرب أحد أكبر وأهم فصائل الجنوب وهو «فرقة شباب السنة» التي كانت تعتبر الذراع اليمنى والموثوقة لغرفة عمليات «الموك»، كما أن قائدها المدعو أحمد العودة من بين قادة الفصائل التي شاركت في «مؤتمر الرياض»، وهو ما يعطيه حيثية سياسية تتوافق مع التوجهات الأميركية – الروسية التي تجلت في اجتماعات فيينا.
وكان ثمة توقعات بأن بعض الدول المشاركة في «غرفة الموك» كانت تعمل على تصدير العودة وتسليمه صلاحيات واسعة بعد دمج فصائل أخرى مع فصيله. لكنّ شيئاً ما حدث، جعل هذه التوقعات تذهب أدراج الرياح، إذ تمت، صباح أمس، إطاحة أحمد العودة من قيادة «الفرقة» وبالتالي إطاحة كل ما بني عليه من توقعات، عبر انقلاب سهل نسبياً نفذه بعض زملائه في قيادة الفرقة.
وفي التفاصيل، أن «فرقة شباب السنة» انقسمت في ما بينها وهاجمت مجموعاتٌ منها مكاتب قيادتها ومستودعات اسلحتها في مدينة بصرى الشام في ريف درعا، ومنعت قادتها من الدخول إليها، ليُصدر «المجلس العسكري التابع للفرقة» بياناً يعين فيه محمد الطعمة قائداً جديداً للفرقة خلفاً لأحمد العودة الذي تحدثت الأنباء عن فراره خارج المدينة مع بعض قادة الفرقة.
ويعتبر هذا انقلاباً عسكرياً كامل الأوصاف، خصوصاً أنه شهد اشتباكات مع أتباع القائد السابق الذين رفضوا تسليم أسلحتهم للقيادة الجديدة التي تسلمت مخازن الأسلحة والذخائر وسيطرت على مقار عسكرية في المدينة. وقد فسّر البعض هذا الانقلاب، الأول من نوعه الذي تشهده محافظة درعا، بأنه جاء استجابة لشكاوى عناصر الفرقة وأهالي بصرى الشام نتيجة فساد أحمد العودة وتصرفاته الخاطئة، ولاسيما إصراره على تهدئة الجبهة الجنوبية في رضوخ كامل لتوجيهات «الموك» من دون أن يأخذ بالاعتبار مناشدات «أخوة السلاح» في الشمال السوري بضرورة تسخين الجبهة للتخفيف عنهم.
لكن هذا التفسير الضحل لا يكفي لفهم طبيعة التحولات التي تجري في محافظة درعا والتي تصب في خانة توسيع نفوذ الاسلاميين وزيادة هيمنتهم على الساحة شيئاً فشيئا،ً وسط عجز من قبل فصائل «الموك» عن مقاومته.
ويرى العديد من نشطاء المدينة أن هذه التحولات لا تجري تلقائياً، بل تقف وراءها دول معروفة لها مصلحة في تقوية الاسلاميين تمهيداً للخروج عن هيمنة «الموك» على قرار العمل العسكري في المحافظة، وبالتالي تمهيداً للبدء في تنفيذ مشروعها الخاص الذي لن يكون مختلفاً عما يجري في الشمال السوري، وتحديداً في إدلب حيث أصبح الاسلاميون هم المسيطرون على الأرض وعلى القرار، مع انعدام أي تأثير لفصائل الجيش الحر.
وفي هذا السياق، لا يبدو مفاجئاً الخبر الذي انتشر قبل أيام في درعا وتحدث عن مبايعة 500 مسلح لحركة «أحرار الشام». وقبل ذلك، كانت فصائل عدة قد أعلنت انضمامها إلى «أحرار الشام» وإلى «جيش الاسلام» في أعقاب فشل «عاصفة الجنوب»، أهمها «لواء العقيد أحمد العمر» و «لواء مشروع بناء أمة»، و «مجد الإسلام» ولواء «صقور حوران».
وتشير الفاعلية المستجدة لكل من «احرار الشام» و «جيش الاسلام» في درعا إلى وجود جهات خارجية تقف وراءهما وتتكفل بالنفقات والمصاريف وغيرها من الاحتياجات التي يستلزمها توسيع نفوذهما في المدينة. وبينما تقف السعودية وراء «جيش الاسلام» في محاولة لتقوية نفوذها في الجبهة الجنوبية على نحو يساعدها في الضغط على العاصمة دمشق التي لا تخفي الرياض إرادتها بإسقاط نظام الحكم فيها، فإن الدوحة تقف وراء «أحرار الشام» بمباركة تركية.
وقد كشف حساب «ويكليكس درعا» على «تويتر»، وهو حساب متخصص في كشف كواليس الفصائل المسلحة في درعا، عن تلقّي «أحرار الشام» مبلغ ثلاثة ملايين دولار مقابل العمل على استقطاب الفصائل من أجل العمل على فتح طريق نحو الغوطة الغربية في ريف دمشق». وأكد أن «أول الفصائل التي تعرضت للابتزاز هي ألوية الجنوب، فكانت معادلة ذخيرة ومال ومحروقات مقابل الاندماج مع الحركة»، مشيراً إلى أن «الدعم القطري الجديد خارج غرفة عمّان الموك» يهدف إلى السيطرة على الشريط الحدودي مع إسرائيل مقابل التقدم باتجاه الغوطة الغربية»، ولفت إلى أن «الدعم الفعلي في الجنوب الآن موجه إلى «أحرار الشام» و «جيش الاسلام» من السعودية وقطر وهما فصيلان مطواعان مقابل الدعم المالي والسياسي».
وفي هذا السياق كان من اللافت، أن يصدر عن لبيب نحاس، الذي يحمل لقب «أبو عز الدين»، مدير العلاقات الخارجية في «أحرار الشام» تهديد مباشر إلى فصائل الجنوب بأنها تستحق القيام بثورة ضدها، حيث كتب على حسابه على «تويتر» قبل ساعات من حدوث الانقلاب في «فرقة شباب السنة» بأنه «إن كان تحرّر حوران من القيود التي فُرضت عليها يتطلب ثورة أخرى، لوجب القيام بها لأنه لا طاقة للنظام بهجوم منسق من درعا إلى حلب» والمقصود بالقيود هو اشتراطات «غرفة الموك».
فهل تشهد درعا انقلاباً «جهادياً» على غرفة عمليات الموك؟ وما مدى إمكانية نجاح هذا الانقلاب؟ وماذا ستكون مواقف الدول المشاركة في «الموك» إزاء ذلك، أم أنها تغض الطرف عمداً بعدما فشل رهانها على فصائل «الجبهة الجنوبية» في تغيير موازين القوة؟ وفي هذه الحالة، ما هي التداعيات التي ستترتب على الأردن الذي يحتضن مقر «الموك» خاصةً إذا تحققت معلومات الجعفري وكانت جبهة الجنوب على موعد مع تصعيد ساخن قد يجعلها تسير في المسار ذاته الذي سارت به جبهة الشمال وانتهى بها إلى الانزلاق التام في أحضان «الجهاديين» وما تبع ذلك من ارتدادات أصابت العديد من الدول بشظاياها.
السفير اللبنانية-