ختمت مقالي السابق هنا في «الاتحاد» عن «قمة الأمل وحالة العرب» معلقاً على الحالة العربية الصعبة، كما بدت للعرب أنفسهم، ولجيرانهم من غير العرب، والدول الكبرى.. وهي حالة لا تساعدنا على التحول إلى رقم صعب في معادلة الأمن الإقليمي. وكما أطالب باستمرار، فنحن بحاجة إلى توحيد الموقف الخليجي- القائد الفعلي للنظام العربي اليوم، والذي يحتاج إلى دعم ومؤازرة الدول المؤثرة في النظام العربي للعمل على بلورة مشروع عربي يحصّن الأمن القومي ويتصدى للمشاريع الإقليمية الأخرى التي تتقاطع وتهدد أمن العرب أجمعين. وهذا ليس بحاجة إلى قمة تكرر بيانات سابقاتها -دون أن تقدم أو تؤخر- بقدر الحاجة إلى قرار استراتيجي يفعل ما بات أمراً ملحاً وليس ترفاً من ضرورة بلورة مشروع إقليمي عربي مؤثر!
وهذه الحالة العربية الضعيفة والمترهلة تغري خصوم العرب، كما نرى، بالتدخل في الشؤون العربية الداخلية وتهديد الأمن القومي العربي، دون قدرة الطرف العربي على ردع ومنع تلك القوى سواء كانت إسرائيل أو إيران أو تركيا، واليوم انضمت إلى اللوحة المضطربة قوى وميليشيات مسلحة طائفية وعنصرية ومتطرفة لتعقّد المشهد وتزيد من مهددات الأمن القومي العربي أيضاً.
ومنذ احتلال فلسطين وما تلاه من تداعيات النكبة والنكسة، وهزائم العرب المتوالية، والنظام الإقليمي العربي هو «رجل الشرق الأوسط المريض»، ما أدخله غرفة العناية المركزة وزاد من ضعفه. وكان لتداعيات الاحتلال العراقي لدولة الكويت أثر الزلزال الكبير الذي ضرب النظام العربي وقسّم العرب، وزاد من حالة الوهن العربية، ولم يعصف يومها الغزو والاحتلال وشطب صدام حسين لدولة الكويت في 2 أغسطس 1990، باستقرار دولة وشعب الكويت، فقط، بل شكّل تهديداً محدقاً للأمن الكويتي والخليجي والعربي على حد سواء. وقد شكّل احتلال صدام حسين لدولة الكويت أكبر زلزال في عصرنا الحديث.
ورسخت تلك الأزمة شرعية النظام الكويتي الذي خرجت المظاهرات في الداخل مؤيدة له ومنددة بالاحتلال، وفي الخارج توحدت القوى السياسية بمختلف مشاربها في مؤتمر جدة مرسخة الشرعية، وطافت العالم ضمن اللجان الشعبية والعمل التطوعي الذي شاركتُ فيه شخصياً ضمن «مواطنون من أجل الكويت». وفي أرقى صورة من التضامن واللحمة الكويتية مع شرعية النظام قاوم أبناء الكويت الاحتلال، وسجل شهداء وأسرى تجاوز عددهم 1200. وحرق نظام صدام عمداً أكثر من 700 بئر نفطية لأشهُر، في أكبر كارثة بيئية في العالم. كما جرى تدمير البني التحتية والمنشآت، وسرقة بلد كامل.
من الناحية الاستراتيجية أصابت كارثة احتلال الكويت التضامنَ العربي بضربة قاصمة أضعفت العرب جميعاً. وتحت حكم صدام حسين السلطوي شكّل العراق مصدر تهديد وجودي دائم لدولة الكويت، وللنظام العربي كله. واليوم، مع الذكرى السادسة والعشرين لغزو واحتلال الكويت ترى أغلبية من الكويتيين أن العراق، لا يزال يشكل تهديداً رئيسياً على بلادهم، حسب رأي 71% ممن شاركوا في استطلاع للرأي على حسابي في «تويتر».
وهذه النتيجة متوقعة، بالنظر إلى تعدد مصادر الخطر من كيان غير آمن، ونظام ينخره الانقسام والتفكك والطائفية والفساد والإقصاء والإرهاب. وهناك تحدي منظمات مسلحة شيعية كـ«الحشد الشعبي» وأخواته، وتنظيم «داعش» الذي يسيطر على ربع البلاد بما في ذلك الموصل ثاني أكبر مدن العراق. ولا يستبعد حلفاء النظام، وآخرهم نعيم قاسم نائب أمين عام «حزب الله» تقسيم سوريا والعراق.. وهو يكرر توقعات الاستخبارات الأميركية والأوروبية!
وتُعزى حالة التردي في النظام الإقليمي لعدة عوامل، منها تدخلات المشاريع الإقليمية، والغربية، والاحتلال الأميركي للعراق وما تلاه من تفككه وتجزئته والحروب الأهلية والطائفية، وتحكّم إيران في مقدراته وقراره. وتُضاف إلى هذا أيضاً موجة ما سمِّي «الربيع العربي»، وازدواجية المعايير، وكل ذلك فاقم خلل توازن القوى، وأسهم في تحويل المنطقة إلى إقليم بلا نظام.
وقد شكّل خروج العراق من معادلة الأمن الخليجي والإقليمي العربي والتحاقه كلياً بإيران عاملاً آخر في تصدع الأمن الإقليمي، وتعزيز مشروع إيران التوسعي وتمددها وتجرئها واستثمارها في حلفاء آخرين من أفغانستان إلى العراق واليمن وسوريا ولبنان. وتحول بعض العرب إلى بيادق وأدوات لتنفيذ مشروع إيران ضد الأمن القومي العربي، واستُثمرت هذه الورقة في مقايضات الاتفاق النووي، الذي كسبت إيران من خلاله إطلاق يدها ويد حلفائها في المنطقة كما نرى اليوم. وكذلك تحولت إيران من عدو استراتيجي إلى حليف غير معلن لأميركا وأوروبا. وهي تقدم نفسها حليفاً للغرب في محاربة الإرهاب.
والسؤال: ما الدروس التي تعلمتها دولة الكويت ودول مجلس التعاون الخليجي والعرب من تجربة كارثة غزو واحتلال الكويت، وسقوط العراق وتحوله إلى عامل يخدم مصالح خصوم العرب؟ ولماذا تفشل دول مجلس التعاون الخليجي التي تقود النظام العربي في توحيد الصفوف لمواجهة التهديدات وقيادة مشروع عربي يردع ويمنع الخصوم الإقليميين؟ وأين صار مشروع التحول للاتحاد الخليجي؟
أما عن حالة التفكك والتفتت عربياً فقد بدأنا بتقسيم السودان قبل «الربيع العربي»، وبعده صرنا نرى بوادر تفكيك وتفتيت العراق وسوريا وليبيا واليمن! وصارت هناك حروب أهلية، وحروب بالوكالة، ودخلت روسيا كلاعب مؤثر ومرجح في أزماتنا العربية، ونرى ذلك في التحالف مع العراق وسوريا وإيران. ونراه بوضوح أكبر في المحنة المستمرة في سوريا.. وآخر تجلياته رفض مشروع قرار يدين تعنت الحوثيين في مفاوضات الكويت حول اليمن!
وهكذا بعد ستة وعشرين عاماً من كارثة احتلال الكويت نرى النظام العربي، بدوله وشعوبه المشردة والمعذبة، مسجىً على طاولة التشريح والتقسيم والتفتيت. وزاد قوس الأزمات والكوارث والتهديد. وصار الهاجس الأمني هو خبز الكثير من العرب أنظمة وشعوباً. والمؤلم أن العرب لا يزالون منقسمين ويبحثون عن مشروع يستندون إليه وسط كل ذلك الركام الذي يزداد ارتفاعاً وتفاقماً دون سقف قريب!
د. عبد الله خليفة الشايجي- الاتحاد الاماراتية-