في حرب اليمن، لا خطوط حمراء، ولا مسارات انسيابية خاضعة لصناعة التقديرات الممكنة. فالمعطيات المتاحة لا تشكل في الغالب سوى مقدّمات لتسلسل حدثيّ متفلّت من عقال التحليل. وهذا لا يفترض بالحدث العسكري وما يصاحبه من حراك سياسي أن يكون شديد «الرصانة» على شاكلة الكيمياء التحليليّة. فالعناصر المكوّنة لفوضى المعركة، فيها من التداخل التاريخي والتبدّل الحدثي و «التقوقع العقائدي»، ما يكفي لإنتاج انفتاح دائم على «مفاجآت» ميدانية أو «إعادة هيكلة» في مستويات تموضع الأحلاف والكيانات والشخوص، ضمن الدائرة التي يزدهر فيها الانقسام العمودي القائم منذ «الانقلاب» الحوثي في أيلول 2014 وما تلاه من تفتيت للجسد السياسي «الهش»، الذي صنعته مرحلة ما بعد المبادرة الخليجية وما تيسّر من «مخرجات» للحوار الوطني.
التناقض لم يكن وليد المعركة القائمة حالياً فحسب، خاصة أن اليمن عاش دوماً صراعاً على طبيعة «الهوية» الوطنية، وفي حالة دائمة من الاشتباك على الوجهة النهائية للخريطة الجيوسياسية، مع ما يشكّله ذلك من انعكاس مباشر على البيئة غير «المنصهرة»، منذ ثورة الستينيات على الإمامة المتوكليّة شمالاً وزمن المشيخات جنوباً. وهذه سلة متكاملة تتميز بغياب التناغم في رقعة جغرافية واحدة. وهي أنتجت دوماً تقلّبات في ما يدور بفلكها من حروب، خاصة حروب اليمن (أو أطراف يمنية) مع المملكة العربية السعودية، وكان من أبرز صورها التاريخية الحرب اليمنية ـ السعودية العام 1934. وهي الحرب التي أنتجت سيطرة سعودية على عسير ونجران وجازان. لكن اللافت كان التقلّبات الدائمة في تخندقات المعركة هذه وما تلاها من نتائج مهّدت لحروب وصراعات أخرى، لم تمنعها الموافقة اليمنية على الحدود الحالية على مرحلتين، الأولى (فاشلة) العام 1974 والثانية (ناجحة) العام 2000.
وتعود بنا سرديّة معارك الثلاثينيات من القرن الماضي إلى حرب بين جيش الإمامة المتوكليّة وقوات الأدارسة في تهامة، الى أن وقّع حسن الإدريسي معاهدة «حماية» مع الملك عبدالعزيز آل سعود العام 1925، في رد فعل على اقتراب قوات الإمام يحيى حميد الدين من منطقة عسير، وصولاً إلى العام 1934 وما شهد من حرب بين قوات آل سعود من جهة والإمامة الزيدية مع الأدارسة في الجهة المقابلة. وعلى الشاكلة المختصرة هذه، ترسم غالبية الحروب المرتبطة باليمن بينياً أو مع الجوار، بما يظهر طبيعة المرونة لدى ساسة البلاد، في إنتاج وإعادة إنتاج الخيارات. هكذا فعل جميع المنخرطين في حرب اليمن اليوم. والأعقد من ذلك، هو الخروج بصورة واسعة الإطار بما يضمن قدرة مناورة أكبر لسبر جزئيات المعركة، التي غالباً ما تقدّم معطيات قد لا تكون منطقية في ردّ الفعل الأول. لكنّها تعبّر في نهاية المطاف عن حقيقة المعركة مهما بدت متشابكة.
بالتوازي مع تناقضات الأرض، لم يحدث حتى الآن أن خضعت ساحة من ساحات «الربيع العربي» لهذا الكمّ من عمليات كيّ الوعي الفضائي «الإعلامي»، كما يحصل حالياً في اليمن، حيث تحتدم المعارك بين القوات البرية التابعة لـ «عاصفة الحزم» والقوات اليمنية المشتركة على مقربة من وسط اليمن الشمالي، لكن في مقابل ذلك، تشتعل جبهة أخرى منذ بدايات الحرب هذه على الحدود السعودية ـ اليمنية، التي أنتجت لقطات مصورة «تاريخية» لجنود يمنيين أثناء اقتحامهم مواقع وقرىً ومدناً، كما حصل في مدينة الربوعة السعودية خلال أيلول من العام الماضي، وكذلك تشرين الثاني من العام ذاته.
تختصر عمليات القصف الجوي السعودي لأهداف «يمنية» داخل المملكة مجمل تناقضات الحرب. فالرياض تهاجم أعداءها براً وجواً في الوسط اليمني، وعلى خط حدود وهمي مرتكز إلى شريط حرب صيف العام 1994 بين صنعاء وعدن. فيما تدافع عن أراضيها وتخوض معارك طاحنة مع القوات اليمنية المشتركة داخل المناطق الحدودية السعودية، ما يعني بشكل واضح ومباشر أن الحرب خرجت عن سيطرة المملكة، وأن سبعة عشر شهراً لم تكن كافية لتكريس «التفوّق» العسكري الخليجي المدعوم أميركياً، في مواجهة ما تبقى من الجيش اليمني الموالي للرئيس السابق علي عبدالله صالح وحلفائه الحوثيين. ومع الأخذ بالاعتبار أن السعودية «استنفدت» قدراتها النارية، فإن الانعطافات الحادة والمتوقعة في النتائج الموضعيّة لهذه الحرب، تقتصر على الطرف اليمني حليفاً كان للرياض أم عدواً، وهو القادر على المناورة بحريّة أكبر، خاصة أن الرياض أصبحت تحت أعين المنظمات الدولية المعنية بجرائم الحرب، بما يفتح الباب على عملية «ضغط» تدفع باتجاه الحل السياسي بمعزل عن تعقيدات جولات التفاوض الفاشلة في الكويت.
جاء إعلان القوات اليمنية المشتركة عن اقترابها من سد نجران بمثابة القشة التي قصمت ظهر خطابة «الحزم»، ومعها «أدبيات» التفوّق التي واظب على استخدامها «وزير» إعلام «عاصفة الحزم» اللواء السعودي أحمد حسن عسيري، وهي تعني بالمعطى المباشر أن العاصفة تلاشت، وأن الاتجاه المنطقي الآن لمسار الأزمة اليمنية يجب أن يذهب بالحد الأدنى نحو إنتاج حل سريع ومرضٍ للجميع. فالحرب خرجت عن سيطرة الرياض، في موازاة انفتاح كامل تفاصيلها على مفاجآت تناقض فارق الأوزان بين أطراف المعركة. ما يعني أن السعودية واليمن والمنطقة ككل لم يعُد فيها من الخطوط الحمراء ما يكفي لصيانة النسيج الجيوسياسي الهش، الناتج عن استقلالات السبعينيات في منطقة الخليج وقبلها في بلاد الشام. أي أن السعودية بخسارتها المستمرة لأراضٍ واسعة، وبعمق يصل إلى 70 كيلومتراً عن حدود اليمن في بعض الأماكن خاصة نجران، أصبحت ممهدة بإعادة إنتاج «مشاريع» يمنية وطنية تعود الى خرائط ما قبل حروب العشرينيات والثلاثينيات. وهي وجهات قد تجد رعاة دوليين جاهزين لتلقفها، في ظل الانخراط السعودي الخارجي الواضح في مواجهة انخراط إيراني موازٍ، مع ما يردف الطرفين من عضلات دوليّة راعية.
أنتج «الحزم» الخليجي في اليمن، بفعل «واعٍ» إنما ناتج عن تقدير خاطئ، حالة «فوضوية» مماثلة لما كانت عليه الأمور في مرحلة ما بعد انهيار «الإمبراطورية» العثمانية. فتحوّلت بذلك المناطق السعودية المحاذية لليمن إلى امتداد طبيعي لساحة الحرب في الداخل، خاصة بعد فشل المملكة في الظهور كدولة «عظمى» بالمعطى الإقليمي، على الأقل من وجهة نظر يمنية شمالية «ضيّقة». ما يعني أن نجران وجازان وجوارهما تحوّلت إلى أرض خصبة للحوار الناري بين صنعاء والرياض، وفي صورة أعمق إلى أرض خصبة للطموحات «الوطنية» اليمنية، تنفتح على احتمالات عديدة منها تبدّلات الإقليم القريب والبعيد، وما يعنيه ذلك من مخاطر كارثية على نهائية الحدود السعودية كما اليمنية، إضافة إلى تعميق الأزمة المجتمعية على جانبي الحدود. فالرياض نظراً لحساسيتها الشديدة في مواجهة «الفشل» والأزمات، تحجب غالبية أخبار الحرب داخل أراضيها، كنزوح عشرات الآلاف عن قراهم ومدنهم، التي ظهرت خاوية من أهلها في المقاطع التي بثتـها القوات اليمنية المتوغّلة إلى ما وراء الحدود.
عبد الله زغيب- السفير اللبنانية-