مَن يُخرِج السعودية من اليمن؟ لم يعد هذا مجرد سؤال عابر، أو تصديراً سياسياً وإعلامياً في سبيل المناكفة، بل أضحى حاجة ماسة لإنقاذ حالتين عربيّتين تخطتا معاً حدود الانخراط القوي، وحدود «الأخلاقيات» العامة للحروب، على الأقل من وجهة نظر «رومنسية» خالصة، طالما أن الحديث عن المملكة العربية السعودية واليمن. فالثاني تخطى الانكشاف على فصول الحرب، وشكل أرضية كاملة لعكس الكيفية التي تشن على أـساسها حروب «الأغنياء» على «الفقراء»، فأصبح اليمن منصّة عائمة على بحار من الدم المسفوك من دون طائل سياسي أو عسكري مباشر. فقد جعلت الحرب وأربابها من صنعاء «اختباراً» عمليّاً قائماً وبالذخيرة الحيّة، لمدى عبثيّة «عاصفة الحزم» بعد انتقالها من حيّز «الممكن» إلى حرب «المستحيل». فباتت المعركة منتجاً «إدارياً» خالصاً، يتحكم به «جمع» من غير ذوي الاختصاص، في سبيل إطالتها بانتظار الانفراجات أو المفاجآت، ما جعلها حربا رتيبة في كل شيء، إلا في إنتاج المآسي.
السعودية في المقام الأول ظهرت وكأنها خرجت من عباءتها منذ سبعة أو ثمانية أشهر، خاصة أن قناعة ترسخت في مكان ما لدى القيادة العسكريّة، مفادها أن التقدم وتحقيق «نصر» واضح ولو كان جزئياً، أصبح أمرا مستحيلاً، نظرا «للخفّة» التي ظهرت عليها آلة الحرب «المتقدمة» التي تمتلكها الرياض في مواجهة «الحفاة». لكن «الأشيلون» العسكري السعودي لم ينجح في تمرير خبرته أو حتى رؤيته لمصير الحرب، فبقيت «العاصفة» على حالها، مع تمديدات قسرية وأخرى إنعاشيّة، طالما أن الرؤية السياسية للحل المرضي والنهائي لم تتبلور بعد، وطالما أن الكتلة السياسية والحقوقية الضاغطة على السعوديين لم تفعّل كما يجب، أو فُعّلت كما أراد محركوها، بما يرضي المنصات الإعلاميّة، ولا يُغضب كبار اللاعبين الدوليين الذين يرعون مصالح الرياض. يضاف الى ذلك ما تمتلكه السعودية من أدوات قوة استثمرتها بوضوح إبان وضع تحالفها العسكري على اللائحة السوداء التابعة للامم المتحدة، ثم ازالته بشكل «مهين» للمؤسسة الدولية.
من أدخل السعودية في حرب اليمن؟ ربما الإجابة على هذا السؤال أصبحت شديدة الوضوح، بالنظر الى كم الحرج الذي ظهرت عليه واشنطن ثم الامم المتحدة في التعاطي مع عثرات الحزم السعودي، وتحديداً في كم «المآسي» الذي أنتجته الحرب هذه، الشق الجويّ منها تحديداً إضافة إلى الحصار. فقد بات لزاماً على الجميع الآن التعاطي مع المملكة على أنها دولة «راشدة»، خاصة أنها أصبحت محارباً «أصيلاً» يتجاوز الحدود الذاتية وينتقل من مقعد المنخرط في حروب الأطراف أو الرعاية، إلى آلة سياسية وحربية متكاملة. وهذا بحد ذاته يطلق مؤشرات قد يتداخل القوي فيها بالضعيف، خاصة مع الحاجة للدخول في حروب بعيدة للحفاظ على سلّة مصالح كانت قائمة ومنتعشة، بمعزل عن النار والدم. لكن الأساس يبقى في المسؤولية المباشرة للمملكة عن هذه الحرب، وفي قدرتها دون غيرها من الحلفاء على اتخاذ القرار «السهل» بإخراج اليمن من محنته، وبالتالي انهاء الخيار «الصعب» القائم حالياً على إنعاش الحرب عبر جرعات أسبوعية أو شهرية من الضربات الموجعة لليمنيين، إنما فقط على المستوى الاجتماعي، خاصة أن الجميع هناك تخطى مرحلة الاختبار النفسي، بفعل سلسلة من عمليات القتل الجماعي وما أنتجته من خطابة شعبية أكثر تصلباً والتقاء مع الخطابة السياسيّة القائمة على إدارة الحرب الحاليّة.
جاءت «مجزرة» خيمة العزاء في صنعاء لتعكس حاجة شديدة لإيقاف الحرب، وقبل ذلك حاجة أشد للبحث عن «المصلحين» القادرين على إقناع السعودية بالنزول عن الشجرة. فالضربة هذه لم تكن نتاجاً «طبيعياً» لمرحلة عبثيّة في الحرب. وهذه تقتضي بالطريقة التي تدار بها الحروب «المتفوقة»، إنتاج قدر قوي من المآسي في سبيل تسعير الحراك الدولي المنتج لوقف إطلاق النار أو الحلّ النهائي. وهذه كانت من السياسات الإسرائيلية الثابتة في عملياتها العسكرية الخارجية، لحظة وقوعها في الرتابة غير المجدية وغير المنتجة لنصر واضح. لذا أصبح العمل على ارتكاب المجازر مدخلاً نحو إحراج الذات وفرض حراك دولي واقعي ينتج سلماً موقتاً. لكن المعضلة تكمن في عدم إظهار الرياض مؤشرات تلقف واضحة لهذا الموضوع، خاصة أن الإدارة السعودية ليست من أصحاب فكرة النفس الطويل، وعادة ما تبحث عن المخارج أو المداخل السريعة تبعاً للقضيّة. وهذا ما يفتح الباب نحو تحويل مجزرة صنعاء إلى حالة مارقة في سلسلة طويلة من مآسي «الحزم»، بدلاً من أن تكون صورة محرجة للجميع ومنتجة لاعتكاف قتالي بفعل «الخجل».
تدرك الرياض تماماً أن كم المواقف التصعيديّة التي سمعتها خلال الأيام الماضية، من جبهات سياسية مختلفة، لن تؤثر في نهاية المطاف على طبيعة انخراطها اليمني ومساره ومحدداته وحتى مستقبله. لكنها تدرك أيضاً أن «خطيئة» بحجم الضربة الجوية تلك، لا يمكن أن تمرر بانسيابية وسلاسة، إن لم يكن الهدف استثمارها في الأساس، حتى وإن جاءت في سياق الخطأ التقديري. فعمليّة اغتيال قائمة على معلومة خاطئة، لا يمكن أن تبرر هي الأخرى مع وجود مئات المدنيين في رقعة لا تتجاوز المئة متر مربّع. وهذه نظريّة إذا ما صحّت، تعكس جرأة منقطعة النظير في تخطي جميع المحددات التي تقوم عليها الخطوط الحمر المصاحبة للحروب، وهي من النوع الذي لم تتمكن إسرائيل من القفز عنه، برغم توفر مئات الفرص أمامها لقتل قادة المقاومة اللبنانية والفلسطينية وهم على منصاتهم وبين جماهيرهم، وعلى رأسهم الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، وذلك بمعزل عن الإجراءات الأمنية والحسابات الزمنية التي تسيّر أجهزة الحماية التابعة لهذه الشخصيات.
جاءت مجرزة صنعاء في السياق الخاطئ وفي المكان الخاطئ، خاصة أن المملكة تخوض معركة علاقات عامة لم تشهدها في تاريخها، مُشكّلة من سلسلة قضايا تنتظرها أمام القضاء الأميركي في تبعات مباشرة لقانون «جاستا»، ما يعني أن الرياض ستصبح وجهة أساسية في السنوات المقبلة لحرب إعلاميّة وحقوقية وشعبيّة على الإرهاب، وربما تصبح هدفاً لحرب سياسية لم تكن تتوقعها. وهكذا فإن عملها الدؤوب وغير المبرر على «تثقيل» سجلها الحقوقي، قد يفضي في نهاية المطاف إلى خسارة تتجاوز جزئيات الحرب اليمنية، وانكسار قدرة الردع السعودي في شبه الجزيرة العربية، مع وجود كم هائل من الخصوم الاقليميين والدوليين، ممن صنعتهم قواعد التموضع الاستراتيجي، وآليات التحالف التي سيطرت على المنطقة لثلاثة عقود. فلا يمكن اعتبار خسارة مجلس حقوق الانسان، وإحراج الأمم المتحدة والأميركيين وحتى القطيعة مع مصر، إلا في سياق صناعة التأزيم غير الموجه، الذي لم تنتج «قيادة الحزم» غير ملامحه في السنوات الخمس الأخيرة، تحديداً في زمن تتضاءل فيه أوزان الرعاة، وإمكانية حفاظهم على القبب الحمائية المتنوعة القدرات والغايات.
عبد الله زغيب- السفير اللبنانية-