لطالما كانت الدوحة تفخر باعتبارها مثالا على الطبيعة المتحولة لمفهوم القوة في عالم يمكن فيه لدولة صغيرة أن تقفز فوق وزنها التقليدي نحو ممارسة العديد من أشكال القوة الناعمة. فبعد عقود من الرضا بلعب دور ثانوي على هامش المملكة العربية السعودية، ومع إدراكها لموقعها كقوة «طاقوية» في المقام الأول، ومع فوائض مالية تجاوزت 170 مليار دولار (عام 2014 على سبيل المثال) بدأت قطر في ممارسة نشاط دبلوماسي يفوق حجمها التقليدي كدولة صغيرة جغرافيا، وتبنت سياسة جريئة ومبادرة مستفيدة من تراجع أو نمطية القوى الإقليمية التقليدية في المنطقة مصر وسوريا والعراق.
وكان دور الوسيط الذي يحظى بالقبول لدى مختلف الأطراف في الصراعات هي الصورة التي اختارت الدوحة رسمها لسياستها الخارجية التي صارت أكثر نشاطا بشكل خاص في عهد الشيخ «حمد بن خليفة آل ثاني» أمير البلاد السابق، الذي انتهج سياسة خارجية تقوم على فض النزاعات، وحولت بلاده إلى وجهة متميزة للوساطات الدولية. من فلسطين ولبنان، إلى السودان وأريتريا وجيبوتي واليمن، قادت الدبلوماسية القطرية العديد من جهود الوساطة الناجحة. كما أنها لعبت أدوار وساطة هامة وحساسة بين الولايات المتحدة وحركة طالبان.
ولكن الدوحة رأت في ثورات الربيع العربي التي اندلعت عام 2011 فرصة لتعزيز دورها كلاعب إقليمي منتقلة من مربع الوسيط إلى مربع الفاعل المباشر خاصة بعد أن حملت التغيرات المرتبطة بالربيع العربي جماعة الإخوان المسلمين، التي تتمتع بعلاقة تاريخية جيدة مع الإمارة، إلى مواقع قريبة من السلطة في عدد من البلدان. كان دعم الدوحة لجماعة الإخوان والأطراف الفاعلة في الثورات نابعا في المقام الأول من رهان سياسي وليس أيديولوجي، حيث تحالفت مع الأطراف التي اعتقدت أنها تحظى بدعم الشعوب في لحظة التحول الكبير، ومن ثم ستكون تلك الأطراف طرفا رئيسيا في مشهد المنطقة بعد الثورات.
حققت جماعة الإخوان نجاحات سياسية كبيرة في بلدان الربيع العربي حتى منتصف عام 2013 كان لها تداعياتها على الداخل الخليجي الذي صار منقسما بشكل ملحوظ؛ ففي حين اختارت قطر دعم الحكومات المحسوبة على الثورات والمرتبطة بصورة كبيرة بجماعة الإخوان، فإن السعودية والإمارات العربية المتحدة تزعمتا موجه العداء للربيع العربي. وسرعان ما انقلب الأمور بشكل كبير في عام 2013، بعد أن تمت الإطاحة بالإخوان من السلطة في مصر، وأجبروا على التناول عنها في تونس وتراجع تواجدهم بشكل ملحوظ في ليبيا، فضلا عن محدودية تأثيرهم في الصراع السوري. وبدا لوهلة أن الدوحة قد راهنت على جميع الجياد الخاسرة، وأن الدبلوماسية القطرية في طريقها للتراجع للوراء.
قرر الشيخ «حمد» (الأمير الوالد) التنحي عن السلطة وتسليم مقاليد الأمور لنجله الشيخ «تميم بن حمد» لأسباب تتعلق برغبة الأمير الوالد تقديم الجيل الجديد، وبعدها أقدمت الدول الخليجية الثلاثة «السعودية والإمارات والبحرين» على خطوة غير مسبوقة بسحب سفرائهم من قطر لإجبار الأمير الشاب على تبني سياسة مغايرة لنهج والده. ومع وجود العديد من الملفات الداخلية التي استدعت اهتمام القيادة القطرية الجديدة، بدا أن هناك قرارا قد اتخذ بالفعل بالانسحاب إلى الوراء خطوة وتقليص الدعم المعلن لحلفاء الدوحة من الإسلاميين. مع الوقت بدا واضحا أن الدوحة قررت إعادة ترتيب أولويات سياتها الخارجية، واختارت التموضوع إقليميا في عدة ملفات خلف الخيارات السعودية وتخلت عن سياستها المبادرة التي مكنتها سابقا من كسب نفوذ إقليمي نافس في بعض مراحله قوى الإقليم الكبرى.
اليمن وعاصفة الحزم
استثمرت قطر بشكل ملحوظ في اليمن خلال العقد الماضي، وبدا أنها تحصلت على قدر كبير من النفوذ بعد نجاحها في التوسط للوصول إلى اتفاق لإنهاء الحرب بين الحكومة والحوثيين في عام 2007. ورغم ذلك فإن النشاط القطري في اليمن بعد الربيع العربي ظل محدودا بشكل كبير، حيث امتلكت السعودية زمام المبادرة وقامت بفرض المبادرة الخليجية للانتقال السياسي في البلاد، وحتى في الوقت الذي كانت الدوحة تلعب فيه دورا رياديا في سوريا وليبيا وحتى في مصر، فإنها اكتفت منذ البداية بلعب دور ثانوي خلف السعودية في اليمن.
وانسجاما مع خطها السياسي المعادي للربيع العربي، انقلبت السعودية سريعا على حلفائها التاريخيين في اليمن، «التجمع اليمني للإصلاح» في محاولة للإطاحة بهم من الخارطة السياسية للبلاد، ما ترك الدوحة من جديد كداعم وحيد للإسلاميين والقوى المحسوبة على الثورة في اليمن. ولكن استيلاء الحوثيين على صنعاء مثل نقطة تحول كبيرة في السياسة السعودية في اليمن، حيث دفعها للتخلي عن عدائها المفاجئ للإصلاح، بعد أن اكتشفت أنها أسهمت في الإخلال بتوازن القوى، ومن ثم إسقاط اليمن في قبضة الحوثيين، وكلاء طهران على حدودها الجنوبية.
كانت الحرب التي قررت المملكة العربية السعودية خوضها ضد الحوثيين في اليمن أول اختبار للتحول في السياسة القطرية. وعلى عكس نهجها المألوف في نبذ التدخلات العسكرية والميل للوصول إلى حلول سياسية، اختارت الدوحة العودة الاصطفاف الكامل خلف السعودية كقربان للتقارب الخليجي من ناحية، ولإيمان قطر ربما أن القضية اليمنية هي مسألة سعودية في المقام الأول.
على المستوى العسكري، اكتفت الدوحة بأداء دور محدود اقتصر عل طائراتها التي شاركت منذ بداية العملية. أما فيما يخض المشاركة البرية فيبدو التواجد القطري محدودا، ويقتصر علي المشاركة في تأمين حدود المملكة الجنوبية، وحتى حين أعلنت قطر أنها سوف ترسل ألف جندي للمشاركة في معارك تحرير صنعاء إلى جانب قوات «التحالف العربي»، في مطلع سبتمبر/أيلول من العام 2015 فإن التعزيزات القطرية يبدو أنها توقفت في النهاية لأسباب مجهولة حيث لم يصل الجنود القطريون إلى مأرب.
على المستوى الدبلوماسي، فقدت قطر دفعة واحدة جميع أصولها الاستراتيجية. تم احتضان الرئيس «هادي» بشكل ملحوظ من قبل الرياض، وسرعان ما استعادت الرياض أيضا زمام المبادرة مع القيادات القبلية للتجمع اليمني للإصلاح بعد تعيين «علي محسن الأحمر» كنائب لهادي. وفي الوقت الذي اختارت فيه الدوحة مجرد الاصطفاف خلف الرياض ودعم خياراتها السياسية والعسكرية، فقد سعت المنافسة التقليدية لقطر، الإمارات، لاحتضان نائبه الأسبق «خالد بحاح»، وأقامت علاقات وثيقة مع قوى الحراك الجنوبي، كما اندفعت إلى جنوب اليمن بقواتها وقادت بصورة عملية العمليات العسكرية في الجنوب سواء ضد الحوثيين أو ضد تنظيم «القاعدة».
صعود إماراتي في اليمن وانزواء قطري
ترك الانسحاب القطري في اليمن الفرصة سانحة لدولة الإمارات العربية المتحدة للعب دور الموازن الأوحد للسعودية في هذا الملف، وذلك من خلال ترسيخ أقدامها عبر الأداء العسكري والتمكين لحلفائها المحليين، والتنكيل بأي قوة تعارضها حتى لو كانت تابعة للرئيس «هادي» نفسه. وفي حين أن مشاركة الإمارات في اليمن جاءت تحت شعار التحالف السعودي، فإن أبوظبي يبدو أنها جاءت بشكل خاص لحماية استثماراتها الخاصة. تسيطر الإمارات اليوم على مقاليد الأمور في عدن، وهي تسعى لتحدي سلطة «هادي»، المدعوم من السعودية، عبر توجيه الدعم إلى المسلحين الجنوبيين، وهو ما ظهر بوضوح في معركة مطار عدن في فبراير/شباط الماضي حين وفرت الإمارات الغطاء الجوي للجنوبيين للاستيلاء على المطار بعد أن أقدم هادي على تغيير قائده المدعوم من الإمارات. ورغم إعلان الإمارات في يونيو/حزيران الماضي نهاية عملياتها في اليمن والإبقاء على قوات محدودة بهدف مكافحة الإرهاب، فإن دورها الرئيسي اليوم يبدو أن يتركز في تدعيم معسكرات الجنوب في مواجهة سلطة «هادي»، تحت اسم «قوات الحزام الأمني» وهي وحدات خارجة تماما عن هيكلة الجيش والقوات الأمنية اليمنية، وتخضع مباشرة للسيطرة الإماراتية. من جهة أخرى استهدفت الإمارات لأسباب اقتصادية وعسكرية استراتيجية السيطرة على جزيرة سقطرى، فيما تتحدث تقارير إعلامية عن مخطط مماثل يجري تطبيقه في جزيرة ميون الاستراتيجية على باب المندب.
وتأتي التحركات الإماراتية في عدن في سياق تحركات أوسع للسيطرة على البحر الأحمر وباب المندب ضمن خطة استراتيجية تهدف إلى توسيع دور البحرية الإماراتية وانتشارها العسكري في ساحل اليمن وباب المندب وحتى سواحل القرن الأفريقي، بدأت بالإعلان عن تدشين قاعدة بحرية إماراتية في ميناء عصب في إريتريا، وكانت الخطوة الأخيرة هي توقيع الإماراتيين على عقود اتفاق مع صوماليلاند (أرض الصومال) وبونتلاند (أرض النبط) في القرن الأفريقي لبناء موانئ مياه عميقة وقواعد عسكرية.
يمكن أن نقول إذا إن الانكسارات المتتالية التي منيت بها الدبلوماسية القطرية في الأعوام الأخيرة جعلت الدوحة أقل جرأة وميلا لخوض المغامرات السياسية وأكثر رغبة في التراجع إلى المربعات الثانوية وهو ما يظهر بوضح في اليمن، حيث تصطف الدوحة خلف الخيارات السعودية المرتبكة، أو التي تخدم مصالح السعودية الحصرية دون اعتبار لمصالح قطرية مقارنة بما تمكنت الإمارات من تحقيقه خلال تحالفها مع السعودية.
في المقابل فإن الانتصارات التي حققتها أبوظبي ضد قوى الربيع العربي، خاصة الإسلاميين، بدعم وغطاء سعودي، دفعت أبوظبي لتبني سياسة أكثر جرأة واستقلالية حتى على حساب مصالح الرياض نفسها. في اليمن، تبدو الإمارات حتى الآن هي الفائز الأكبر على المستوى الاستراتيجي، في الوقت الذي تتحمل فيه السعودية وحدها ضريبة العملية العسكرية التي طالت أكثر من المتوقع. أما قطر فإنها، فيما يبدو وعلى غير عادتها، قررت الإنزواء ومتابعة المباراة من على مقاعد المتفرجين.
فتحي التريكي- الخليج الجديد-