بشرى المقطري- العربي الجديد-
تحل الذكرى الثانية لتحرير مدينة عدن من مليشيات الحوثي وعلي عبد الله صالح في ظل تحدياتٍ لا تقل خطورة عن حالة الحرب التي عاشتها المدينة في مطلع 2015.
فعدا عن خلاص عدن من قوى الحرب الداخلية، فإن اشتداد التجاذبات السياسية وتحولها إلى مواجهاتٍ مسلحةٍ بين القوى الجنوبية المنادية بفك الارتباط، المدعومة من الإمارات، الدولة الثانية في التحالف العربي لدعم السلطة الشرعية، والشرعية نفسها تمثل مؤشرا خطيرا على الاحتمالات التي قد تذهب إليها الأمور، فضلاً عن استمرار تردّي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لأهالي عدن ومناطق الجنوب.
اللافت في مشهد مدينة عدن، بعد عامين من التحرير، تغير الدور الإماراتي الذي أصبح أكثر وضوحاً من السابق، بعد تعزيز ثقلها العسكري والسياسي والأمني في المدينة، وتمتين شبكة تحالفاتها مع القوى الجنوبية كاستحقاق سياسي، وإدراكها أن مرور عامين منذ تحريرها لمدينة عدن وقتٌ كافٍ لفرض هيمنتها المطلقة وحكم الجنوب.
من موقعها قوة إقليمية متدخلة في اليمن، عملت الإدارة الإماراتية على استغلال حالة الفراغ السياسي في المناطق المحرّرة، وخصوصا في مناطق الجنوب، لبدء خطواتها في الطريق إلى حكم جنوب اليمن، والذي ينطلق من زحزحة أي سلطةٍ مناوئة لنفوذها مهما كانت ضعيفة.
وفيما يبدو أن السلطة الشرعية ليست معارضة للنفوذ الإماراتي، أو أي نفوذ آخر، إلا إذا هدّد وجودها، لذا أدركت الإمارات أن الخطوة الأولى في زحزحة الشرعية اليمنية هي عبر دعم القوى السياسية التي تنازعها المشروعية على الأرض، ونجحت باستخدام القوى الجنوبية الموالية لها، وأذرعها العسكرية، في إدخال القوتين في صدام عسكري غير متكافئ، كشف ضعف السلطة الشرعية.
أما الإجراء الآخر فقد تمثل في حصر تركز السلطة الشرعية بمنطقة "معاشيق"، وعزلها عن المحيط السياسي، ووضع هذه المنطقة، "مقر السلطة الشرعية"، تحت إشرافها المباشر، ونزع قوتها العسكرية في هذه المنطقة.
في هذا السياق، فإن المواجهات المسلحة المتجدّدة، بين وقت وآخر، بين الحرس الرئاسي والحزام الأمني المدعوم من الإمارات ليس سوى محاولةٍ من الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، لمواجهة النفوذ الإماراتي بضرب القوى الجنوبية المواليه لها. لكن، يبدو أن الخطوات الإماراتية تجعل من مناوشات هادي مجرّد زوبعةٍ في فنجان.
فمنطقة "معاشيق" تخضع للسلطة الفعلية للإمارات، إذ تسيّر القوة العسكرية الإماراتية الموجودة في "معاشيق" الحياة في هذه المنطقة، ولا يمكن لأي وزيرٍ في حكومة الشرعية، أو أي مسؤول حكومي الدخول إلى منطقة معاشيق، من دون تصريح إماراتي، وخضوعه للإجراءات الأمنية التي يديرها قائد عسكري إماراتي رفيع المستوى.
وهو ما جعل من سلطة الـ"معاشيق"، مقرّ التجمع الحكومي، منزوعة الأنياب، وواقعة تحت الإقامة الجبرية للإدارة الإماراتية. وعلى ما يبدو، نجحت هذه الإجراءات في عزل السلطة الشرعية.
تزامنا مع حالة الحصار الذي تفرضه على السلطة الشرعية في معاشيق، بدأت الإمارات في نزع القوة الاقتصادية من السلطة الشرعية، وتحويل الثقل الاقتصادي إلى القوى الجنوبية المتحالفة معها.
وفي هذا السياق، تمكن قراءة أزمة البنك المركزي في عدن، وافتعال أزمة رواتب موظفي الدولة، فعجز الحكومة الشرعية عن دفع رواتب موظفي الدولة يقف خلفه عرقلة القيادات الجنوبية التي تدير البنك المركزي والموالية للإمارات، إذ أدركت هذه القوى أن امتلاكها القرار السيادي في أهم مؤسسة اقتصادية يمكّنها من السيطرة على موارد الجنوب التي يجب أن تذهب إلى أبناء الجنوب فقط من دون المناطق التابعة للشرعية.
ومن جهةٍ أخرى، فإن عرقلتها صرف شيكات المرافق الحكومية في المناطق الشمالية تكرّس استقلالها الاقتصادي خطوة في تحقيق الاستقلال النهائي، فضلا عن أن ذلك يفاقم النقمة الشعبية ضد السلطة الشرعية، وهو ما يؤهلها لأن تكون البديل الحقيقي على الأرض، وهذا لا ينفي فساد السلطة الشرعية وضعفها وفشلها في فرض سيطرتها على موارد الدولة، سواء في مناطق الجنوب أو في مأرب وتعز.
إجراءات تقويض الإمارات السلطة الشرعية في عدن، ممثلة بشخص الرئيس هادي، تتقاطع مع دعمها السياسي نائب الرئيس المقال ورئيس الحكومة الأسبق، خالد بحاح، وإعادته إلى الواجهة الإعلامية رئيساً مستقبلياً للجنوب، مواليا لها، فإن ظهور بحاح في حضرموت أخيرا، ونشاطه الاجتماعي والسياسي، وعقده تحالفاتٍ سياسيةٍ في المنطقة ليس سوى رسالة إماراتية إلى الرئيس هادي، تؤكد على أنها أحرقت مراكبها معه، وأنها من سيحدّد الرئيس القادم للجنوب.
من جهة أخرى، سعت الإمارات إلى تكريس قوتها العسكرية والأمنية في جنوب اليمن، فإضافةً إلى دعمها جميع الهيئات العسكرية والأمنية التي شكلتها في مناطق الجنوب، وتأسيس سجونٍ للمعارضين لها، بدأت الإمارات في تشكيل جيش جنوبي، وهو ما عارضه الرئيس هادي. ولبلورة هذه الخطوة، أشرفت بشكل مباشر على آلية الانتساب إلى الجيش المزمع تأسيسه، وحصرت الانتساب بالجنوبيين الموالين لها.
تثبيت دعائم أي سلطة سياسية تسعى إلى حكم جنوب اليمن لا بد أن يبدأ بضمان ولاءات القوى المحلية في مدينة عدن، وهو ما أدركته الإمارات من قراءتها التجربة البريطانية في حكم جنوب اليمن، وسيرها على نهجها، إلا أن ضمان ولاء القوى المحلية في مدينة عدن يمثل تحدّياً حقيقياً للإمارات حتى الآن، إذ يتعارض ذلك مع ما تبقى من مدينة عدن، وتنوعها الاجتماعي والسياسي.
فالولاءات داخل عدن متغيّرة، ولا تعكس اتساق التحالفات الإماراتية مع القوى الجنوبية الموالية لها، حيث يحكم علاقة الأهالي بالسلطة السياسية توفيرها الخدمات واستقرار الوضع الأمني في المدينة، لكن الإمارات التي منحت الكهرباء للمواطنين، قرضا وليس هبة، تدرك أن اضطلاعها بتوفير الجانب الخدمي للأهالي مكلف، وأن أسهل الطرق إلى تثبيت حكمها في عدن تأهيل قوى جنوبية موالية لها في السلطة، في مقابل مفاقمة معاناة المواطنين لسحب البساط من السلطة الشرعية، والقوى المتحالفة معها.
صار الطريق الإماراتي في حكم جنوب اليمن الآن ممهداً أكثر من أي وقت آخر، إذ لا وجود لقوى محلية في المناطق الجنوبية الأخرى تعارض الأجندات الإماراتية، بل إن بعضها يتعاطى مع الشرعية كسلطة احتلال يتوجب طردها، فيما يتعاطي مع السلطة الاماراتية في الجنوب كقوى محلية.
ففي مدينة حضرموت التي تمتلك خصوصية جغرافية وسياسية واقتصادية، كرّست نزعتها الاستقلالية، بسطت الإمارات يدها على المدينة بسهولةٍ لافتة، من خلال تنفيذ مشاريع اقتصادية ونسج علاقات سياسية مع القوى المحلية في المدينة، كما فرضت سيطرتها الكاملة عسكرياً وأمنياً في حضرموت.
وفي هذا السياق، أصبحت قوات النخبة الحضرمية التي شكلتها الإمارات، ودربتها منذ عامين، ذراعها القوية في حضرموت، توازي الحزام الأمني في مدينة عدن.
خلافا لمدن الجنوب اليمني، خضعت جزيرة سقطرى، الغنية بالموارد النباتية والحيوانية، والتي تعد من أندر المناطق في العالم، للسيطرة الإماراتية منذ تدخلها العسكري في اليمن، فالجزيرة البعيدة عن الحرب، وأيضاً عن الإعلام، كانت أولى مناطق النفوذ المطلق للإمارات في الجنوب، إذ تحتكر الشركات الإماراتية الاقتصادية والسياحية إدارة موارد الجزيرة، كما تشرف على الجزيرة قوات عسكرية إماراتية.
ومن ثم فإن ما تناقلته وسائل الإعلام عن نقل الإمارات شجرة "دم الأخوين" إلى شوارعها، وتسريب مذكراتٍ رسمية إلى قيادات محلية تحذّر من التصرّف بموارد الجزيرة من جهاتٍ لم تسمها، وشراء تجار إماراتيين أراضي في شواطئها، ليست سوى جزئية بسيطة من فداحة المشهد في جزيرة سقطرى.
تنفيذ الاستحقاق الإماراتي في حكم جنوب اليمن مسألة وقت لا أكثر، ولا يبدو أن الخطوات التي يقوم بها الرئيس هادي، والتي كان جديدها إقالة محافظي حضرموت وشبوة وجزيرة سقطرى وقيادة المنطقة الرابعة، أعضاء المجلس السياسي الجنوبي المدعوم من الإمارات، سوى قرارات رئيس ضعيف يخوض معركة فاشلة.
لكن حينما يقرّر الرئيس هادي مواجهة الإمارات بشكل مباشر، لا أدواتها المحلية في الجنوب، وأن لا تكون هذه المواجهة دفاعا عن شخصه، وإنما رفضا لأجندة قوى إقليمية ترسم خريطة اليمن، من دون إرادة أبنائها، يمكن حينها أن يعوّل عليه اليمنيون.
لكن واقع الحال بعيد عن الأمنيات، فما تؤكده حقائق الأرض أن التجربة الإماراتية في حكم جنوب اليمن تتبلور يوماً بعد آخر، ويعزّز من ذلك استغلالها ثقلها السياسي والعسكري قوة إقليمية متدخلة في اليمن، إضافة إلى ما أنتجته بيئة الحرب من انقساماتٍ في المجتمع اليمني، وغياب قوى محلية جنوبية مستقلة، حتى لو كان لديها خيار الاستقلال عن الشمال، تواجه الأجندة الإماراتية.
ويبدو أن وقتا طويلا سيمر، قبل أن تولد قوة وطنية في اليمن بشكل عام، تمتلك إرادتها السياسية، وتحكمها خيارات اليمنيين، لا من يدفع أكثر.