توفيق الجند- العربي الجديد-
لا يمكن فهم طبيعة العلاقات اليمنية السعودية من دون فهم واضح لطبيعة دور اللجنة الخاصة السعودية في ملف علاقات البلدين، وهي علاقة مركبة، وغارقة في تفاصيل العلاقات غير الرسمية أكثر من مظاهر العلاقات الرسمية وتقلباتها.
وحسب الباحث المهتم بشؤون القبائل اليمنية بول ك. دريش (1994) فإن "من المتفق عليه أن العلاقة بين صنعاء والرياض شيء، والعلاقة بين آل سعود وبيت الأحمر شيء آخر"، وبيت الأحمر هم رأس القبيلة اليمنية ورمزيتها، لزعامتهم خلف قبائل حاشد أقوى قبائل اليمن، بل ويذهب دريش إلى أفضلية الشيخ الراحل عبدالله الأحمر لدى الرياض، تسبق حتى الرئيس (يومها) علي عبدالله صالح، باعتبار الأحمر أصل العلاقة.
وعندما أرادت الرياض دعم صالح رئيسا لليمن في يوليو/ تموز 1978، أرسلت طائرة خاصة في اليوم نفسه الذي انتخبه فيها مجلس الشعب التأسيسي رئيسا لليمن الشمالي حينها، وكانت مهمة الطائرة أن تقل الشيخ الأحمر إلى السعودية، ليعود في اليوم نفسه، صحبة علي بن مسلم، مشرف اللجنة الخاصة لإقناع زعماء القبائل بدعم صالح، وظل بن مسلم لتنفيذ المهمة في اليمن، حتى تثبت حكم صالح، كما قال الأحمر نفسه في مذكراته.
من الملكية إلى الجمهورية
مع قيام ثورة سبتمبر 1962 في صنعاء، وقفت الرياض إلى جانب الملكيين ضد الثوارالجمهوريين، وكانت القبائل قوام الجيش الملكي، ما استدعى مع استمرار حرب الطرفين ثماني سنوات أن تؤسّس الرياض كيانا جديدا في هيكلها الحكومي، للإشراف على الملف اليمني، وأصبحت اللجنة الخاصة السعودية بمثابة إدارة في مجلس الوزراء، تحت إشراف مباشر من الأمير سلطان بن عبد العزيز (النائب الثاني لرئيس الوزراء وزير الدفاع حينها)، المسؤول الأول عن ملف اليمن من يومها حتى وفاته في عام 2009.
ولأن السعودية دولة غير مؤسّسية، بل كيان قبلي ديني، قائم على أشخاص، كما تقول الكاتبة والباحثة اليمنية، ميساء شجاع الدين، تدخلت في اليمن بالطريقة التي تفهمها، معتمدة على القبيلة والقوى الدينية، مع حرصها على بقاء الدولة، ولكن كدولة ضعيفة.
وتوضح الباحثة أن السعودية حرصت على استقطاب زعماء القبائل منذ ما بعد الثورة، وأبرزهم عبدالله بن حسين الأحمر، للضغط على الرؤساء اليمنيين، مثل عبد الرحمن الإرياني وإبراهيم الحمدي، بينما نجح صالح بالتلاعب بشيوخ القبائل، بعد تمكنه من الحكم، إلا أنهم استفادوا من دعم الرياض للبقاء أداة تهديد له، حتى تراجع ذلك الدعم، بعد توقيعه اتفاقية الحدود مع السعودية عام 2000. ولأنها تعتمد على الأشخاص، وليس المؤسسات، تاهت السعودية في اليمن، منذ وفاة كل من الأمير سلطان والشيخ الأحمر، كما ترى الباحثة.
وحسب مصدر قبلي رفيع، تربطه علاقة ممتازة بالقبائل اليمنية والسعودية معا، حاولت السعودية، منذ بداية تدخلها في اليمن، إحياء علاقتها بزعماء القبائل، خصوصا الواقعة في محيط صنعاء، لكنها أخفقت لسببين:
- حرص الرئيس السابق صالح على التواصل الدائم مع زعماء القبائل، وكسبهم إلى صفه.
- طريقة السعودية في التعامل مع هؤلاء المشايخ الذين استدعتهم إلى الرياض بداية الحرب، فرغم منحهم مبالغ مالية مجزية، إلا أن لهجة المسؤولين السعوديين وخطابهم مع هؤلاء لم ترق لهم.
بالتالي، عاد أغلبهم ليقف في صف الحوثيين وصالح مجدّدا، ويبدو أن الرياض حاولت تصحيح أخطائها في التعامل مع مشايخ قبليين بارزين في إبريل/ نيسان الماضي، عند اجتماع الأمير محمد بن سلمان بهم، وإلقاء كلمة كان فيها كثير من الإشادة بهم، والتقدير لدورهم في الحرب ضد الحوثيين - صالح.
واعتبر الكاتب الصحافي اليمني، رضوان الهمداني، أن دور السعودية في دعم مراكز قوى يمنية خارج الإطار الرسمي ساهم في إضعاف الدولة، والتآمر عليها، وأنه في مقابل ذلك الدور السلبي الذي لعبته الرياض، وأسهم في تقويض الدولة، يأمل من السعودية تعديل استراتيجيتها في التعامل مع اليمن دولة، وليس أشخاصا وقوى مناهضة لها.
ويرى الكاتب فتحي أبو النصر أن القبيلة اليمنية أكثر براغماتية من سواها من الكيانات اليمنية، وأنها ذراع السعودية في اليمن تاريخيا، خصوصا قبائل طوق صنعاء التي تتحكم بالعاصمة، ذلك أن الجناح القبلي في شمال اليمن ظل متماسكا وقويا على الدوام، تحرّكه المصلحة، وأن قبائل طوق صنعاء تحديدا تلعب دورا حاسما في تحديد مستقبل العاصمة، ومستقبل البلد برمتها، وذلك هو دافع الجهود التي تبذلها السعودية والرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومته لاستقطاب هذا القبائل أخيرا، أو تحييدها على الأقل، مؤكدا أن القبائل لا تخوض حربا خاسرة، وتعرف مصلحتها بشكل دائم.
ويذهب أبو النصر إلى أن جهود الحوثيين المسبقة باستقطاب هذه القبائل، عبر ما سميت وثيقة الشرف القبلي بداية الحرب، أسقطت من حسبانها أن القبيلة تثق فقط بمن يمنحها المال والسلاح، وبمن يؤمن لها مصالحها في مؤسسات الدولة مستقبلا، لأنها باتت تدرك تغيّر موازين القوى محليا وإقليميا، خصوصا قبائل حاشد وبكيل التي يستلم زعماؤها مخصصاتٍ شهريةً من السعودية منذ عقود.
ويذكر أبو النصر أن قبائل "حاشد" و"بكيل" تحديدا تحافظان على توازن القوى بينهما، وبما يضمن عدم وقوف أي منهما كليا مع الصف الخاسر، إلا أن هاتين القبيلتين شهدتا، منذ عام 2014، انقساماتٍ غير مسبوقة، خصوصا "حاشد" التي استغل الحوثيون خصومات بعض وجاهاتها مع آل الأحمر لشق القبيلة، رغم بقاء حضور حزبي المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح فاعلا في القبيلة التي تتقاسم مع الحوثيين موقفا مناهضا للدولة المدنية.
فاتورة يمنية سعودية
أدى صعود رموز قبلية كثيرة إلى مراكز قيادية في الدولة، مع استمرار علاقتهم بالسعودية، إلى تهميش مؤسسات الدولة، وأن السعودية لم تدرك أن ذلك الدور الذي لعبته لن يضرّ اليمن وحدها، بل ستكون فاتورته يمنية سعودية، كما أثبتت الأحداث أخيرا، والتي كان إضعاف الدولة المتعمد في العقود الماضية أهم أسبابها، وأنه يجب مشاركتها في تمدين القبيلة، وليس قبْيَلة الدولة مطلبا ملحا وجوهريا لتكريس دور الدولة ومؤسساتها مستقبلا.
ساهمت السعودية عبر مراكز القوى اليمنية، ليس فقط في إضعاف الدولة اليمنية، بل في إشعال حروب الشطرين اليمنيين قبل الوحدة، فقد اتخذ الرئيس علي عبدالله صالح قرار الحرب مع الجنوب عام 1979 في اجتماع محدود، حضره السفير السعودي في صنعاء والملحق العسكري الأشهر، صالح الهديان، حسب شهادة الشيخ سنان أبولحوم، كما أن حرب الشطرين في 1972، كانت قد تمت، بعد حشود قبلية غير مسبوقة من قبائل الشمال ومعارضين جنوبيين في الشمال، في إطار تعامل السعودية مع شمال اليمن قبل الوحدة دولة حاجزا بينها وبين النظام الماركسي المعادي لها في جنوب اليمن.
وتظهر مذكرات الشيخين، الأحمر وأبو لحوم، حجم اللقاءات القبلية المناهضة للرئيس إبراهيم الحمدي، والتي جرى بعضها، بحضور أمراء سعوديين، منهم مسؤول المخابرات وأمير نجران، وأن آخر وفد من شيوخ القبائل عاد من السعودية قبل اغتيال الحمدي بأسابيع.
كان زعماء القبائل أداة التغيير التي تسقط حاكما وترفع آخر، ابتداء بالمشير عبد الله السلال أول رئيس للجمهورية، خصوصا وقد حصل هؤلاء على مناصب رفيعة في المجلس الجمهوري، وسيطروا على مجلس الشورى.
وفي عهد الرئيس الإرياني، أدّت معارضتهم السياسات المالية إلى استقالة ثلاث حكومات متوالية، بل إن تصعيد رئيس حكومة مطلع السبعينيات، عبدالله الحجري، لم يتطلب أكثر من مذكرة من مستشار الملك فيصل إلى الرئيس الإرياني، حسب الباحث قادري أحمد حيدر.
وعندما بدأت أطر التمثيل المجتمعي تنتقل من القبيلة إلى الحزب بشكل خجول، منذ عام 1990، عند إقرار التعدّدية السياسية في دستور دولة الوحدة، دعمت الرياض قادة الحزب الاشتراكي اليمني في حرب 1994 عقابا لصنعاء على موقفها من حرب الخليج الثانية، وأحيت بعض القيادات الجنوبية التي ظلت في الشمال منذ الستينات، لتؤيد موقف الحزب الاشتراكي، خصمها اللدود تاريخيا. وكانت قبائل قد عقدت مؤتمراتٍ موسعة للتعبير عن موقفٍ يناقض الموقف الرسمي من حرب الخليج الثانية، مثل مؤتمر التضامن للقبائل اليمنية (أكتوبر/ تشرين الأول 1990).
وعندما لم تنجح جهود الرياض في الضغط على صنعاء لإنهاء قضية الحدود العالقة بين البلدين منذ 1934، كان ملاحظا ارتفاع عدد الاعتداءات القبلية على الخدمات العامة، وقد وثق الدكتور عادل الشرجبي 198 اعتداء على خطوط الكهرباء من قبيلة جهم خلال عام 1998 فقط.
وأبعد من ذلك، ذكر الدكتور عبدالولي الشميري القيادي السابق في "الجبهة الإسلامية" التي دعمتها السعودية، في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته لمواجهة "الجبهة الوطنية" في حروب المناطق الوسطى، أن المتهمين في أول عملية إرهابية شهدتها اليمن (ديسمبر/ كانون الأول 1992) قد هربوا إلى السعودية، وحصلوا على الرعايتين، الصحية والمادية، وعاد بعضهم بجوازات سفر سعودية.
وفي 2014، مع بداية توسع جماعة أنصار الله (الحوثيين) من صعدة باتجاه صنعاء، قالت مصادر خاصة يومها إن الرياض هدّدت زعاماتٍ قبلية في منطقة كتاف بوقف الاعتمادات المالية المخصصة لها، إن استمروا في المواجهة المسلحة مع الحوثيين.
ويومها، نشرت صحيفة الشارع، المقربة من حزب الرئيس السابق، أسماء لشخصيات يمنية بارزة ضمن كشوفاتٍ مالية تابعة للجنة الخاصة السعودية، شملت قيادات قبلية وعسكرية وقبلية، شمالية وجنوبية، سلطة ومعارضة، إسلامية وليبرالية، من ضمن عدة آلاف من اليمنيين، يحظون برعاية تلك اللجنة، يتوزّعون على أغلب القبائل والمناطق، ولو أن الكشف يضيق، كلما اتجهنا صوب وسط اليمن وجنوبه، ويتسع كلما اتجهنا شمالا، لتهيمن قبيلة حاشد على نصيب الأسد منها، تليها قبيلة بكيل.
وبالتأكيد، فإن دعم أي دولة لأشخاص من دولة أخرى، وبطريق غير رسمية، ليس عملا خيريا، وإنما استقطاب سياسي نفعي، وإن تغاضت السلطات اليمنية المتعاقبة عن تلك القضية رغبة ورهبة، فإن التشريعات اليمنية تعد استلام الأموال من دولة أجنبية خيانة عظمى.