أمجد جبريل - العربي الجديد-
بعد تقديم الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، استقالته في 2 إبريل/ نيسان الجاري، عاد الصراع على أشدّه بين الثورات العربية ومحور الثورات المضادة، بعد "تهدئة إجبارية قصيرة"، عكست حالة الانكماش، والتراجع، وفقدان المبادرة، التي طبعت السياسة السعودية، منذ اغتيال الصحافي جمال خاشقجي في 2 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
صحيحٌ أنه لا يزال مبكراً تحليل كامل انعكاسات الحدثين الجزائري والسوداني ومآلاتهما عربياً وإقليمياً، بيد أن الرياض تتملّكها اليوم حالةٌ من "القلق الوجودي"، بسبب احتمال "عودة الروح" إلى الثورات العربية، في صورةٍ ربما تتشابه مع ربيع عام 2011، بل ربما تكون أنجح وأكثر منها قدرة وتنظيماً.
ويدفع هذا القلق الرياض إلى محاولة استعادة زمام المبادرة عربياً وإقليمياً، عبر تكثيف "هجوم" محور الثورات المضادة، على الصعيدين السياسي والعسكري. وفي هذا الإطار، من الأهمية بمكان، تحليل دوافع السعودية لدعم اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر الذي زار الرياض أواخر الشهر الماضي (مارس/ آذار)، وحظي باستقبالين رفيعين من الملك وولي عهده، قبل أن يبدأ حفتر حملته العسكرية على طرابلس في 4 أبريل/ نيسان الجاري.
ثمة أربعة اعتبارات تنطلق منها الرياض في سلوكها "الجديد" نحو ليبيا:
- أولها، تأكيد حضور ونفوذ السعودية في العالم العربي، واستثمار زخم الاستقبال الذي حظي به الملك سلمان في القمة العربية الثلاثين (تونس31 مارس/ آذار الماضي)، ومنحه الدكتوراه الفخرية من جامعة القيروان، وذلك في ردّ غير مباشر على احتجاجات التونسيين على زيارة ولي العهد محمد بن سلمان، أواخر العام الماضي.
ورغم الاندفاع السعودي في اليمن خصوصاً، وارتكاب مجازر جديدة ضد المدنيين هناك، بغية تأكيد "حزم" الملك وولي عهده، فإن دعم الرياض العلني لحفتر، وتقدّم السعودية على مواقف الإمارات ومصر، في الشأن الليبي، يبدو مفاجئاً.
لكن تفسيره قد يتعلق بأسلوب بن سلمان في توجيه السياسة الخارجية لبلاده نحو مزيدٍ من "الشخصنة" و"العسكرة"، وتكثيف استخدام الأدوات الإكراهية ضد الخصوم، من قبيل استخدام الأداة العسكرية من دون حسابات سياسية/ استراتيجية عقلانية، وفرض الحصار البحري والبرّي والجوي.
وشنّ حملات دبلوماسية وإعلامية، خصوصاً في حالتي اليمن وقطر. فضلاً عن توظيف الرياض أدوات التخريب الاقتصادي، والتورّط في حروب مالية/ اقتصادية/ نفطية، ضد إيران وتركيا.
- ثانيها، توجيه رسالة قوية إلى جميع الأطراف بأن السياسة السعودية لن تتغيّر، سواء داخلياً أو عربياً أو إقليمياً، وأن النظام لا يعاني من أي ضعفٍ أو اختلافاتٍ بين الملك وولي عهده محمد بن سلمان، كما أشارت بعض الصحف الغربية؛ فالملك متمسّك بولي عهده، وربما لن يغيره في الأمد المنظور.
- ثالثها، استثمار خروج الرئيس الأميركي دونالد ترامب بوضعية أقوى بعد تقرير المحقق روبرت مولر، على نحو قد يدفعه إلى انتهاج سياسات أكثر يمينية. ويبدو أن الرياض وأبوظبي والقاهرة وتل أبيب ستعمل على استثمار ذلك إلى أقصى حد ممكن، لإقناع ترامب بالاستمرار في دعمهم، واستكمال جهود تشكيل "الناتو" العربي/ الإسرائيلي، مع تكثيف الضغط على مناوئي "صفقة القرن" لكي يغيروا مواقفهم، خصوصاً الأردن والسلطة الفلسطينية وتركيا وإيران.
بهذا المعنى، ربما يركز ترامب الآن على مقاربة مصلحية/ أمنية/ مشخصنة، كما يتضح من مؤشرين:
أحدهما اعتراف واشنطن بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية في دعم صريح لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو في انتخابات التاسع من إبريل/ نيسان الجاري.
والآخر زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى واشنطن، ووصف ترامب له بأنه "رئيس عظيم"، وتجاهل ترامب ضغوط المشرعين الأميركيين بشأن حقوق الإنسان والمعتقلين في مصر والسعودية.
- رابعها، استثمار تصنيف واشنطن الحرس الثوري الإيراني منظمةً إرهابية؛ إذ اعتبر بيان مجلس الوزراء السعودي، برئاسة الملك سلمان، في 9 إبريل/ نيسان الجاري، ذلك خطوة عملية وجادة في جهود مكافحة الإرهاب. وفي هذا السياق، اتصل ترامب بمحمد بن سلمان لبحث سبل "الحفاظ على أقصى ضغط على إيران".
ويأتي هذا التصعيد الأميركي ضد طهران متزامناً مع فتور جديد تشهده علاقة واشنطن مع أنقرة، بسبب إصرارها على استيراد منظومة الصواريخ الروسية إس 400، على الرغم من اعتراضات واشنطن وحلف شمال الأطلسي (الناتو).
ويبدو أن الرياض تسعى إلى توظيف ذلك، لتأكيد مكانتها وحظوتها الإقليمية لدى واشنطن، ما يؤكد أن بن سلمان هو "الوكيل العربي الأوثق" لتنفيذ سياسات ترامب في الشرق الأوسط، خصوصاً فيما يتعلق بتنفيذ "صفقة القرن" والتضييق على إيران وتركيا.
رغم كل ما تقدم، لا يعني ذلك أن معركة طرابلس الليبية محسومة لمصلحة خليفة حفتر ومحور الثورة المضادة، نظراً لأربعة اعتبارات:
- أولها، أن العامل المحلي في هذا الصراع الليبي يبقى متأرجحاً ومعقداً؛ إذ يصعب على أي طرف حسم معركة طرابلس سريعاً، باستخدام القوة العسكرية المحضة، في ظل تهافت خطاب معسكر حفتر الذي يزعم أنه "يحارب تنظيماتٍ إرهابيةٍ لا تحترم القانون الدولي، وأن تفاهمات أبوظبي بين حفتر ورئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج كانت بشأن مكافحة الإرهاب، وليس الحوار السياسي"، كما صرح أحمد المسماري، المتحدث باسم قوات حفتر.
وقد يصعب استمرار حفتر وداعميه الإقليميين والدوليين في توظيف متغير "الحرب على الإرهاب"، كونه المبادِر بالهجوم على طرابلس وقصف مطار معيتيقة، والتسبب في نزوح مئات المدنيين من مناطق الصراع.
- ثانيها أن توقيت الهجوم على طرابلس استهدف أمرين؛ إحداث حالة إرباك أمني/ سياسي للجزائر، وعرقلة عقد مؤتمر الحوار الوطني الليبي في غدامس. وصحيح أن الهدف الأخير قد تحقق بالفعل، ولكن قد يصعب إلغاء دور الأمم المتحدة ومبعوثها غسان سلامة، على ضعفهما الشديد، تماماً مثل حالتي اليمن وسورية.
- ثالثها، أن تصريحات وزيري خارجية تركيا وقطر تكشف تحميلهما حفتر وداعميه مسؤولية الهجوم على طرابلس، ما يعني انقساماً إقليمياً بشأن الأزمة.
- رابعها أن الدعم الفرنسي والروسي لحفتر يواجه موقفاً معارضاً نسبياً من إيطاليا وألمانيا وبريطانيا وأميركا، ما يعني "شللاً" في دور مجلس الأمن الدولي، وانقساماً دولياً مستمراً بشأن مقاربة حل الأزمة الليبية التي تندرج ضمن مساومات "اللعبة الكبرى في الشرق الأوسط"، وجهود إعادة تشكيل النظام الإقليمي في المنطقة.
باختصار، لا جديد في المواقف الإقليمية والدولية من أزمة ليبيا، باستثناء متغيرين؛ أحدهما تغير نمط التدخلات السعودية ليكون أكثر وضوحاً.
والآخر التراجع النسبي في موقف الجزائر المعارِض للتدخلات الخارجية العسكرية في الشأن الليبي، نظراً لانشغالها بترتيب بيتها الداخلي، وإدارة تداعيات مرحلة "ما بعد بوتفليقة". وهذا كله قد يؤدي إلى إطالة أمد الصراع الداخلي الليبي.