فؤاد السحيباني- خاص راصد الخليج-
خلال فترة الهجوم الألماني على الاتحاد السوفيتي، الجزء الأكثر دموية وزخمًا بالأحداث في الحرب العالمية الثانية، كان التفوق التقني للصناعة الألمانية حاسمًا في بدايات المعارك، ساحقًا لكل محاولات السوفيت لوقف التقدم الدائم، والكاسح، للجيوش النازي على ثلاث جبهات، وشكلّت الأهداف الإستراتيجية للقيادة الألمانية العليا، ليننجراد –سان بطرسبرج- شمالًا، وموسكو العاصمة، وأوكرانيا في الجنوب.
ومع استمرار الصراع، خرجت إلى النور دبابة "تايجر" الألمانية، فائقة التصفح، بمدفع هائل من عيار 88 ملليمترًا، قادرة على تدمير الدبابات الروسية، واختراق أكثرها تدريعًا، فيما صفائحها الفولاذية المضاعفة، تضمن سلامتها من قذائف دبابات T34 السوفيتية، الأكثر استخدامًا من جانب الجيش الأحمر، وقتذاك.
لجأ السوفيت إلى حيلة العالم "إيفان بافلوف"، نظرية "الارتباط الشرطي"، وطبقوها على الكلاب، بتجويعها وتدريبها على البحث عن الطعام تحت جنزير دبابة، واصطحبت كتائب المشاة أعدادًا هائلة من الكلاب، يجري تلغيمها وإطلاقها فور رؤية دبابات النازيين، ومن ثم، تفجيرها عن بعد، في اللحظة الحاسمة، ضمن أساليب أخرى فرضتها المعركة غير المتكافئة، وكان أحدها التصويب من أمدية قصيرة جدًا، تتيح لمدفع T34 اختراق تصفيح "تايجر" بالغ القوة.
وفي نهاية المعارك، لم يصف مؤرخ ماذا فعل الروس بجيش الكلاب المدرب الهائل، لكن المؤكد أنه لم يحصل على أوسمة عسكرية، أو نياشين وطنية، وربما كانت النهاية الدراماتيكية أكثر اتساقًا مع تفكير الزعيم السوفيتي الرهيب، جوزيف ستالين، وتم التخلص منها، بعد انتهاء دورها في الخدمة.
فصول القصة المشوقة عادت إلى المسرح الشرق أوسطي، بشخوص جديدة، في عهد رئيس أميركي، يملك من الوقاحة والغرور ما لا يتصوره أحد، أو يحكمه عقل، وتبارى حكام الخليج الفارسي في تقمص دور الكلب الروسي المخلص، اللاهث تحت أقدام سيده، وقمة النشوة أن يربت السيد على ظهره، أو يلقي له بفتات ما تبقى من طعامه وشرابه.
الولايات المتحدة، أو الشيطان الأكبر، تخوض معركة على امتداد رقعة العالم، لمحاولة إعادة كفتها في الصراع مع التنين الصيني على الصدارة الاقتصادية للكوكب، و"ترمب" جاء ببرنامج يشبه حلب الضروع التابعة، من اليابان إلى كوريا الجنوبية والخليج وأوروبا، وكفلت له العروش الكرتونية في الخليج نجاحًا يقدر بمئات المليارات من الدولارات، حتى مع الإهانة العلنية، ورغم الثنائيات المتجاذبة-المتنافرة التي تحكم هذه الرقعة الإستراتيجية الغنية.
أراد حكام الخليج، وعلى رأسهم ابن زايد وابن سلمان، من "ترمب" أن يصفي التهديد الإيراني، هكذا ببساطة، آمنوا بقوة أميركا الهائلة، وتخيلوا إنها قادرة على كل شيء، تأمر فتطاع، وتضرب متى شاءت فتدمر دولًا وتمحق أممًا، وتغير خريطة العالم وفق رؤيتها، التربية والنشأة في الحلية وقصور الحكم زينت لهم أوهامهم، ووضعوا كل رهاناتهم في السلة الأميركية، وانتظروا لحظة إعلان الحرب فقط.
التاجر الذكي "ترمب" على الجانب الآخر، كان يدرك إن اللعب بالنار مع إيران ليس نزهة أو عملية عسكرية سيشنها ويحصد الصمت، طهران ليست بغداد صدام أو كابول طالبان، والعبرة هنا بموقف الأمة أو الشعب، فالشعب الواقف في خندق قيادته السياسية والروحية لن يُهزم، هذا هو درس التاريخ الأبلغ، قد تخسر الجيوش معاركها، وتتراجع وتنسحب، لكن للشعب كلمته العليا، وإرادته لا تنكسر بالسلاح والغارات.
يمارس القرصان الأميركي لعبة ابتزاز وقحة لحكام الخليج، فبعد كل ما أنفقوه لشراء رضا سيد واشنطن، كان المقابل إرسال حاملة طائرات متقادمة، هي "يو إس إس أبراهام لينكولن"، الموجودة في خدمة البحرية الأميركية منذ نهاية الثمانينات 1988/1989، والمقرر خروجها من الأسطول العسكري بنهاية العقد الحالي! بينما كانت الأبواق الإعلامية الخليجية –ذات الإنفاق الهائل- تدق طبول حرب لم تقع، وربما لن تقع في الظرف الحالي على الإطلاق.
الرد الإيراني الواضح والمباشر، من أعلى قيادة في الدولة، المصمم على رفض وساطة يابانية رفيعة المستوى لنقل رسالة من البيت الأبيض، ثم إسقاط طائرة تجسس أميركية فوق مياه الخليج، لا تدع مجالًا للشك إن لعبة الابتزاز انتهت، وبخسارة فادحة وغير مسبوقة لولي العهد السعودي المتهور، وضاعت أضخم رشوة قدمت في التاريخ البشري المعروف -480 مليار دولار- هباءً بلا طلقة واحدة على طهران.
والأكثر كوميدية في قصة بائسة، كان نهايتها التي بدأت موسيقاها تصدح في خلفية الأحداث المتسارعة، الأمم المتحدة بادرت بإعلان مسؤولية الأمير السعودي عن قتل وتقطيع المعارض الراحل جمال خاشقجي، بل ونشرت على العالم أدق تفاصيل المكالمات الهاتفية لخلية التنفيذ، والطريقة البشعة لعملية الاغتيال، داخل القنصلية السعودية، مع الإشارة لأدوار الحلقة الضيقة للسلطة في الجريمة.
بن سلمان فشل في كل تحدياته، داخليًا وإقليميًا، ليس فقط لأنه راهن على "ترمب" المخادع، لكن لأنه نسي إن القيادة بلا شعب هي تيه كامل في صحراء الضياع، وراء سراب تراه العيون لحظة، وتهفو إليه الأقدام في شوق، وحين تصله، تدرك خسارة كل فرص الحاضر، وأي أمل كان ممكنًا في المستقبل.