وكالات-
لم يكن ما أقدم عليه المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن، بإعلانه في 25 أبريل/ نيسان الماضي حكمًا ذاتيًا، مجرد استجابة متأخرة لحالة احتقان ناجمة عن تضاؤل فرص تنفيذ “اتفاق الرياض” الموقع بين المجلس والحكومة في 5 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
فالاتفاق بغالبية بنوده، لا سيما الأمنية والعسكرية، ظل يمثل، وفق خبراء، “مصدر إزعاج وقلق” للمجلس الانفصالي، ومن ورائه داعمته الإمارات التي عمدت طيلة سنوات وجودها بمحافظة عدن جنوبي اليمن إلى بناء تشكيلات عسكرية وأمنية تدين فقط بالولاء لمصالح أبو ظبي.
لكن الأخطر في هذا الإعلان هو أن المجلس، الذي نشأ تحت سمع وبصر السعودية، قائدة التحالف العسكري العربي في اليمن، بات يتحرك الآن ضمن سياسات بعيدة كليًا عن رؤية السعودية.
بل وتتناقض هذه السياسات بشكل حاد مع هدف الرياض المعلن من التدخل العسكري في اليمن، منذ مارس/آذار 2015، وهو إنقاذ اليمن، عبر إنهاء “انقلاب” جماعة “الحوثي” منذ 2014، واستعادة الشرعية.
كما تهدم تلك السياسات اتفاقًا سياسيًا، لطالما اعتبرته السعودية “إنجازًا خاصًا”، وسعت إلى الاستثمار فيه على المستويين الإقليمي والدولي، باعتباره “إضافة مؤكدة” لعمق ومتانة تأثيرها على الأطراف في جارها اليمن.
ويظهر جليًا نجاح السعودية في تكريس هذه الفكرة من خلال المواقف الإقليمية والدولية، التي أعقبت إعلان المجلس الانتقالي حكمًا ذاتيًا بالمحافظات الجنوبية.
فقد حرصت بيانات الكثير من دول الإقليم والعالم على الإشارة إلى “اتفاق الرياض” باعتباره “الأساس” للتعامل مع المشكلة الجنوبية.
لكن المجلس الانتقالي الجنوبي وجد هو الآخر في الموقفين الإقليمي والدولي المناهضين لإعلانه، فرصة لتكريس صورة عن نفسه، كمجموعة “سياسية منظمة”، لا تتخذ قراراتها وفقًا لـ”مزاج لحظي” أو “انفعالات ظرفية”.
وحرص المجلس، تزامنًا مع تتابع المواقف المناهضة لإعلانه الحكم الذاتي، على تأكيد أنه لا تراجع عن هذا الخيار، الذي يصفه بـ”الثابت والإستراتيجي”.
وقال عضو هيئة رئاسة المجلس الانتقالي، فضل الجعدي، عبر “تويتر” الثلاثاء الماضي، إن “رئاسة الانتقالي مفوضة من الشعب، وأهدافه خارطة طريق للقيادة”.
وتتبادل الحكومة اليمنية والمجلس الجنوبي اتهامات بشأن المسؤولية عن عدم تنفيذ “اتفاق الرياض”.
ويتضمن الاتفاق 29 بندًا لمعالجة الأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية في الجنوب، بينها تشكيل حكومة كفاءات مناصفة بين محافظات الشمال والجنوب.
موقف السعودية
شدد مجلس الوزراء السعودي، في اجتماع برئاسة الملك سلمان بن عبد العزيز، الأربعاء الماضي، على ما ورد في بيان تحالف دعم الشرعية الأحد (26 أبريل/ نيسان الماضي)، من ضرورة عودة الأوضاع في عدن وبعض محافظات الجنوب لما قبل إعلان حالة الطوارئ من جانب المجلس الانتقالي، بحسب الوكالة السعودية الرسمية (واس).
كما أكد على “إلغاء أي خطوة تخالف اتفاق الرياض، الذي حظي بترحيب دولي واسع، ودعم مباشر من الأمم المتحدة، والتعجيل بتنفيذه”.
البيانات وحدها لا تكفي
لكن الحكومة اليمنية الشرعية تنتظر من السعودية ما هو أكثر من مجرد “بيان” لا يجبر المجلس الانتقالي على إنهاء ما تعتبره الحكومة “عصيانًا خطيرًا” يقوض المزيد من نفوذها وسيطرتها على الأرض.
وتدرك الحكومة أن مزيدا من التآكل لنفوذها السياسي والجغرافي يدفع أكثر بمخاوف تلاشيها خلال مدة زمنية قصيرة، ويعزز من هذه المخاوف الضغط العسكري المستمر من الحوثيين في الشمال، وتحديدًا مأرب، ما ينذر بخسارتها لأهم وأكبر معاقلها الرئيسية.
وفور إعلان المجلس الانتقالي ما سماها “إدارة ذاتية” لمحافظات الجنوب، طالبت الحكومة المدعومة من السعودية، الرياض باتخاذ موقف صريح وواضح تجاه هذا الإعلان.
ولا تقتصر “كارثة” هذا الإعلان من وجهة نظر الحكومة عند حدود هدم اتفاق الرياض وتقويض نفوذها السياسي، بل يتعدى ذلك إلى إفشال جهود إدارة ملفات عديدة، في صدارتها المعركة ضد الحوثيين، والأزمة الاقتصادية، إضافة إلى جهود مكافحة وباء فيروس “كورونا” في عدن المهددة بتفشيه على نطاق واسع بعد التثبت من حالات مصابة.
وقال محمد الربيدي، مسؤول بوزارة الصحة اليمنية، الخميس الماضي: “أدى تدخل الانتقالي في مهام القطاع الصحي إلى تعطيل نشاط المحجر الصحي وكافة أنشطة مكتب الصحة الحكومي بعدن (العاصمة المؤقتة) والهادفة لمواجهة تفشي فيروس كورونا”.
وأوضح أن “حالة التداخل والاعتراض والعرقلة وازدواج المهام تهدد بفشل كل جهود مواجهة الفيروس في عدن”.
لذا فإن على السعودية، باعتبارها قائدة التحالف والمعنية بمعالجة تداعيات الأزمة اليمنية منذ اندلاع الحرب في 2015، أن تتدخل بشكل حاسم لإنهاء “تمرد المجلس الانتقالي الجنوبي”، وإعادة الأمور إلى ما قبل أغسطس/ آب 2019، عندما سيطر المجلس على عدن وأنهى نفوذ الحكومة فيها.
وتتمتع السعودية بكافة مزايا السيطرة على عدن، منذ حلول قواتها محل القوات الإماراتية، التي أعلنت انسحابًا عسكريًا من اليمن، أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 2019.
ويمثل اتفاق الرياض “فرصة ذهبية” للسعودية كي تستعيد نفوذًا قديمًا صادرته الإمارات في غفلة من الأمير السعودي الشاب، ولي العهد محمد بن سلمان.
لكن فضلًا عن ذلك، فهذا الاتفاق يمنح السعودية “غطاءً كافيا” لتعميق نفوذها جنوبي اليمن، خصوصًا مع ضمانها الغطاء الحكومي، واستمرار شريحة مهمة من اليمنيين في منح التدخل السعودي “صورة بيضاء”، فضلًا عما يمكن وصفه بـ”شبه الاطمئنان” لموقفها تجاه قضايا جوهرية، مثل “الوحدة الوطنية”، والصراع ضد قوات الحوثي، المدعومة من إيران (غريمة السعودية).
هذه المزايا باتت الآن تحت طائلة التهديد الحقيقي، مع إصرار المجلس الانتقالي، المدعوم إماراتيًا، على المضي في إجراءات “الإدارة الذاتية”، بما تخلقه من انعكاسات ستعصف باتفاق الرياض، وتساهم في تشتيت جهود المواجهة ضد الحوثيين.
ولعل ما يمكن تأكيده، بعد أكثر من أسبوع على إعلان المجلس الانتقالي، هو أن أسلوب “المراوحة” واستخدام الوسائل “الناعمة” للضغط على المجلس فشلت في ثنيه عن التراجع عن إعلانه “الانفصالي”.
وهو ما يدفع أكثر بخيار “القوة”، باعتبارها الخيار الوحيد حاليًا أمام السعودية لإنقاذ اتفاق الرياض، وتأمين نفوذها السياسي والعسكري جنوبي اليمن.