متابعات-
انتقل اليمن، في الأعوام الثلاثة الماضية، من مرحلة الصمود إلى مرحلة المبادرة والهجوم. وبات، وفق الوضع القائم، يقفر قفزات نوعية واستثنائية في المبادرة، واضعاً النظام السعودي أمام تحديات قد لا يستطيع تحمّلها. وتُظهر الأهداف التي تعرّضت للقصف في الداخل السعودي، أن القيادة اليمنية قرّرت التعامل بالمثل مع الرياض، فتعمّدت، للمرّة الأولى، استهداف محطّات الكهرباء ومحطّات تحلية المياه والتكرير. وعلى هذا المنوال، إنْ لم يتمّ رفع الحصار عن اليمن بحلول الصيف، سيكون النظام السعودي أمام وضع بالغ الخطورة، من شأن تداعياته أن تطاول كلّ أنحاء البلاد.
وإنْ تعمّدت المملكة استغلال حاجة السوق العالمية إلى نفطها، عبر الضغط على حلفائها الغربيين المشغولين بالأزمة الأوكرانية، إلّا أن هذه الأزمة تشكّل، من جهتها، فرصة للقوى المعادية لواشنطن، إذ تعطيها مجالاً أوسع للمناورة، وهو ما بدأت مؤشراته بالظهور في بعض الأحداث والتطورات، بدءاً بالضربة الإيرانية التي استهدفت مقرّاً لـ«الموساد» في أربيل، وليس انتهاءً عند عمليات «كسر الحصار» اليمنية. وعليه، لم يَطُلْ الوقت كثيراً ليرتفع صراخ السعودية وحلفائها الذين تداعوا إلى قمة شرم الشيخ، وهم يحضّرون لعقد أخرى في تل أبيب.
ولعلّ أبرز المفارقات في عمليات «كسر الحصار» التي ينفّذها الجيش اليمني و«اللجان الشعبية» ضدّ أهداف حيوية في الداخل السعودي، التغطية الإعلامية الواسعة والمباشرة على الهواء من قِبَل الفضائيات ووسائل الإعلام السعودية المختلفة، سواء تلك الموجّهة إلى الداخل أو الخارج. وعبر إعلامها، توجه المملكة رسائل إلى مَن يعنيه الأمر، لتشير إلى خطورة الاستهدافات اليمنية التي تطاول إمدادات النفط العالمية، وأن مَن يضغطون على الرياض بالطلب منها ضخّ المزيد من النفط، عليهم اتخاذ قرار بحماية المنشآت النفطية والأمن الطاقوي والممرات البحرية. وبقدر ما تمثّل الرسائل السعودية أداة ضغط على المجتمع الدولي، وخصوصاً واشنطن، فهي تكشف، في الوقت ذاته، عجز المملكة التامّ عن حماية نفسها ومنشآنها الحيوية. ومن ناحية أخرى، يهدف السعوديون، من وراء تغطيتهم الإعلامية، إلى تخويف الشعب والقيادة اليمنيين من تأليب الرأي العام والمجتمع الدولي، فضلاً عن إيجاد التبريرات لاعتداءاتهم اليومية على هذا البلد. وبات واضحاً أن الرياض تحاول تحميل «أنصار الله» مسؤولية ارتفاع أسعار النفط العالمية، غير أن هذه السياسة تحمل وجهاً آخر؛ فبدل أن تستدرج تدخلاً دولياً في اليمن، قد تشكل ضغطاً على السعودية عبر إجبارها على رفع الحصار عنه، خصوصاً أن أنظار الدول الكبرى واهتماماتها منصرفة بالكامل نحو الأزمة الأوكرانية. وعليه، وإذ يُحتمل أن تأتي هذه السياسة بنتائج عكسية، ثمة رأي يقول إن تعرّض مصادر الطاقة السعودية للاستهداف، قد يلزم أصحاب القرار الغربيين بالبحث عن الاستقرار في باب المندب ومضيق هرمز والمتوسط، حيث تمتلك إيران وحلفاؤها حضوراً وازناً.
انتقلت الرياض إلى ربط زيادة إنتاج النفط باستدراج الحماية للمملكة وللممرات الملاحية
ولا يقتصر الضجيج السعودي على الإعلام، بل إن المؤسسات الحكومية انتقلت - بشكل واضح - إلى ربط زيادة إنتاج النفط باستدراج الحماية للمملكة وللممرات الملاحية. وفي هذا السياق، قال مصدر مسؤول في وزارة الطاقة السعودي، بعد عملية «كسر الحصار» الثالثة، إن هناك آثاراً جسيمة تترتّب على قطاعات الإنتاج والمعالجة والتكرير ستفضي إلى التأثير على قدرة المملكة الإنتاجية. وفي وقت سابق من الأسبوع الماضي، وفي أعقاب عملية «كسر الحصار» الثانية، قالت الخارجية السعودية إنها تخلي مسؤوليتها من أيّ نقص في إمدادات البترول، في ظلّ الهجمات التي تتعرّض لها منشآتها النفطية من قِبَل اليمن.
على أن حكام الرياض لم يتعلّموا من تجارب الحرب الطويلة، والتي من المفترض أن تكون غنية بالدروس والعِبر. وفي هذا السياق، أُخبرَت القيادة السعودية بأن بنك الأهداف الذي زوَّدتها به الولايات المتحدة، والذي بموجبه شنّ طيرانها، الشهر الماضي، غارات عنيفة على صنعاء وبقية المدن اليمنية، كفيل بالقضاء على المنظومتَين الصاروخية والطائرات المسيّرة ومصانع إنتاجهما، ليتبيّن لاحقاً أن ما كانت تعلنه قيادة «التحالف» من استهداف للمنظومات الصاروخية والطائرات المسيّرة في اليمن، هو عبارة عن أعيان مدنية ومنازل سكّان آمنين. أما سوء التقدير الآخر الذي وقعت فيه القيادة السعودية، فهو أنها قدّرت، إثر اعتراضها، في الأشهر الماضية، جزءاً من المسيّرات والصواريخ الباليستية والمجنّحة، بأنها نجحت في إسقاط هذا السلاح بشكل كلي من يد الجيش و«اللجان الشعبية»، وأبطلت مفعوله. وكانت وزارة الدفاع الأميركية، «البنتاغون»، وافقت في تشرين الثاني الماضي، «في مواجهة الواقع الجيوسياسي الجديد»، على بيع صواريخ ونظام دفاع مضاد للصواريخ للسعودية، بما في ذلك 280 صاروخ جو - جو بقيمة تصل إلى 650 مليون دولار. ولم تدرك القيادة السعودية أن المنظومات المتطوّرة التي حصلت عليها من واشنطن، سيقابلها تطوير آخر في صنعاء التي احتفظت بقدرات نوعية واستثنائية تمتلك ميزة التعمية على ردارات المنظومات الأميركية، والتي يُعتبر «الباتريوت» إحداها. ونقلت صحيفة «وول ستريت جورنال»، عن مسؤول أميركي رفيع، قوله، إن إدارة بايدن أرسلت هذه المنظومة الدفاعية إلى الرياض الشهر الماضي، بناءً على طلبها، لمواجهة «الحوثيين».
وبخلاف قادة الحرب في السعودية، أثبتت صنعاء أنها تمتلك المزيد من المفاجآت، وأن الجانب السعودي لا يزال غير جاهز للاستماع، على رغم أن الجانب اليمني أعلن ذلك بوضوح وفي مناسبات مختلفة، وآخرها ما كشفه قائد حركة «أنصار الله»، عبد الملك الحوثي، في خطابه في الذكرى الثامنة للحرب، من أن تطورات نوعية كبيرة يشهدها التصنيع الحربي والصاروخي. ويأتي هذا الكشف المهم بعد سبع سنوات من العدوان ليؤكد أن المغامرة العسكرية وأوهام القوة لم تدفع الشعب اليمني إلى الاستسلام بقدر ما حفّزته على بناء قدرات ردع كفيلة بإفهام دول العدوان أن كلفة استمرار عدوانهم سترتفع أكثر وأكثر.