(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
تُخبرنا قراءَة التّاريخ أنّ الصّراع بين الدّول يتّخذ شَكلين، لا ثالث لهما، إمّا أنّه سِباق تنافسٍ بين قوّتين، قد يحمل كلّ أسباب الصّدام الدّموي، وقد يَصل إلى نُقطة حرِجة بالحَرب، لكنّه يبقى صراعًا محكومًا بظروف معيّنة، إذا ما انقضت قد تَعود المياه لمَجاريها بطريقة سَلِسة وسَهلة، مثلَ ما جرى بين ألمانيا وإنجلترا في الحَربين العَالميّتين، وبعدَ كلّ ما شهِدته مدُن الدّولتين من دمارٍ هائل، وتَقتيل واسع للمدنيين وتدمير ممنهَج للبِنية الأساسيّة، ورغَبات محمومة لدى الشّعبين في الانتصار، عادت الحكومتين بعد رَحيل صوت البارود وأضواء النّيران إلى العمل سويًا، بل ووصلوا إلى التّحالف العسكري تحت مظلّة حِلف النّاتو.
هذا التّنافس الذي يَحمل في طيّاته اعترافًا بالآخر وإقرارًا بمَصالحه، ويُقرّ بأنّ الاحتِكام للبَارود والنّار مجرّد ممارسة سياسيّة بأسلوبٍ خشن، هو ما دعا أحد أبرز القادة الألمان، المارشال إيرفن رومل إلى محاولة خلق جسر اتصال مع عدوّه المارشال البريطاني مونتغمري، لمحاولة التوصّل لهُدنة على الجانب الغربي لألمانيا، فيما لو نجحت العمليّة "فالكيري" الشهيرة لاغتيال أدولف هتلر، بل وهو السّبب ذاته الذي دعا عددًا من قادة ألمانيا النّازية إلى طرح فكرة هُدنة مع الغرب، لتركيز كلّ جهدهم وطاقتهم وقواهم لوقف الاكتساح السوفييتي للشّرق، وقد طرحها الرّجل الثاني على قمّة النّظام هرمان غورينغ في اجتماعات علنيّة.
والنّوع الثاني من الصّراع هو سباق وجود، معركة حياة أو موت، صدام شامل ودائم، تتفاعل فيه رواسب ماضٍ دموي مع مرارات جديدة وآلام قائمة وجروح عميقة شاهدة، وأنهار دم لا تمنح الوجدان الجمعي فرصة للتّجاوز، ولا تترك للذّاكرة الوطنيّة رفاهيّة النّسيان، صفحات وصفحات كتبتها السّيوف وخطّها الرّصاص بمداد الدّم السّاخن، وإذا كان الصّراع بين اليَمن والسعوديّة ينتمي إلى هذا النّوع الثاني بكلّ تأكيد، فإنّ تدخّلات تيّارات كُبرى ومصالح دوليّة وقِوى ظاهرة وخفيّة، ثمّ امتزاجها بخِلافات إقليميّة ووطنيّة وقبليّة ومذهبيّة، تّجعل من محاولة التّجاوز المبسّط لهذا الصّراع أقرب إلى أماني كاذبة وأوهام قاصرة، وعقول عجِزت عن أن تتعلّم بخِبرة التّجربة وثقلها وتكاليفها الفادحة.
في هذه الأيّام، والسياسة السعودية الخارجية قد اتّجهت إلى تصفية –أو تصفير- مشاكلها وصراعاتها في الإقليم، بإعلان التّهدئة مع إيران، ثمّ بوقف جزئي للسّباق البائس على مقعد قيادة الخليج مع كلّ من قطر والإمارات، ثمّ التوجّه إلى موازنة علاقاتها الدّولية الأوسع، بتدشين تحالف اقتصادي واسع المدى مع التّنين الصّيني الصّاعد، وابتعادًا بخطوة أو نصف خطوة عن السياسة الأميركيّة في منطقة الشّرق الأوسط، وإغلاق صفحة الحديث عن تطبيع مع كيان الاحتلال القائم على أرض فلسطين العربيّة، فإنّ أحدث مؤشّرات هذا التّغيير هو مُفاوضات تُمهِّد لوَقْف الحرب العبثيّة في اليَمن، لحقتها بسرعة عمليّة تبادُل الأسرى، في محاولة لغلق ملف الاستنزاف المُستمر قبل أن يُطلّ علينا العام الثّامن منه.
خطوة أُخرى جيّدة وكبيرة، بإنهاء هذا الملف وتَجميده، في ظلّ أوضاع إقليميّة وعالميّة أقلّ ما توصف به إنّها مُشتعلة، ومؤشّرات سلبيّة تُنذر بالخَراب، ومُوازنة مختلّة تنوء بأعباء الحرب ومصروفات السّلاح وغيرهما، ووضع اقتصادي دولي لم يَعُد يتحمّل ولا يُطيق المُغامرات الطّائشة والسّير في طريق ثَبُت بالدّليل القاطع إنّه مَسدود وعبثي، ثمّ واقع داخلي في المملكة يحمل بذور الشّقاق والخِلاف، وربّما بصراع قادم على السّلطة، في حال غياب المرجعيّة السعودية الوحيدة القادرة، وهي الملك.
لكن، وقبل أي تفاؤل بالوضع الطارئ، أو التوجّه الجديد، يجب أن يقِف الجميع في المملكة وقفة حساب، تنظر فيما حدث وكيف حدث، وأين كنّا وإلى أين وصلنا بعد الحرب، وقفة لازمة وضروريّة، حتّى لو كانت ستُفضي فقط إلى اعتراف لا مُحاسبة، وكشف لا عقوبة، حينها فقط يُمكن القَول إنّها خطوة كاملة، تمهّد لإغلاق كامل لهذه الحرب الشيطانيّة، وتفتح السّبل أمام تجنّب مثل هذا النّزق في المستقبل، سواء في القرار أو في الإدارة بشكلٍ عام.
لم تكُن الحرب، التي أعلنها فجأة ودون سابق إنذار، وزير الدّفاع السّابق وولي العهد الحالي محمد بن سلمان على اليَمن في 2015، سوى نُقطة حرجة تُمثّل واحدة من ذرى صراع طويل، سبَقتها نقاط انفجار كبيرة، وستلحقها نقاط أُخرى أكثر، قد تتفجّر عندها الأوضاع الهشّة عند أقلّ حركة خاطئة، أو غير محسوبة.
ويكفي فقط مُعاينة النّتائج المباشرة لهذه الحرب، داخليًا: منذ العام التّالي لاشتعال الصراع بدأت الموازنة السعودية في نزيف هائل، والتجأ محمد بن سلمان للصندوق السيادي لمواجهة التّكاليف الهائلة للتّسليح والنّفقات العسكريّة المطلوبة، وخلال 7 أعوام تالية استمرّ العجز المُتنامي في الموازنة، ولم يوقف الهدر سوى إبطاء وتيرة العمليّات العسكريّة، والحرب الرّوسية في أوكرانيا، والتي منحت قبلة الحياة لأسعار النّفط، لتتجاوز خلال العام الماضي عتبة 150 دولار للبرميل، ما منح فرصة نادرة للتّعافي السّريع من الأزمة الاقتصاديّة.
وعلى المُستوى الإقليمي، فقد فتحت الحرب جُرحًا عميقًا في العلاقات المُستقبليّة مع اليَمن، وسنظلّ نتذكّر بكامل الحسرة والمرارة هذا القرار، كأسوأ ما مرّ في تاريخ العلاقات بين البلدين، بما يعنيه من تحمّل لفاتورة عداء باهِظة، قد تُشكّل مع قادم الأيام خطرًا كبيرًا، وخطرًا مؤكّدًا على المملكة، وهذا فقط يكفي للتّدليل على أنّ المطلوب الآن هو وقفة تُعيد تَقييم النّتائج، وتُحاول بهذا ترميم ورأب الصّدع الذي سبّبته الحرب ودمائها وآلامها.
الحروب الكُبرى هي الصّانع الأوّل للثّورات والتّغييرات، سواء كانت وطنيّة أو إقليميّة، واليَمن بكلّ ما مرّ به وعانى منه واختبَره في ساحات الدّم والنّار، مؤهّل بأوضاعه وبخريطته لتغير ضخم وشامل، يُعيد الوحدة إلى الشّعب العربي الشّقيق، والمَعارك لا تَقف عند خطوط حدّدتها مواقع الجيوش نصرًا أو هزيمة، إنّما هي مولدة لإرادات وأماني وخُطط وطنيّة، وفي هذه النّقطة بالذّات، لا بدّ أن تتحمّل السعوديّة بعض المسؤولية، اختيارًا، قبل أن تصفعها التطوّرات بما لا قِبَلَ لها بِه.