متابعات-
في الظاهر، يبدو أن التفاوض يدور حول تجديد الهدنة الموسَّعة بين الجانبَين اليمني والسعودي، وعلى صرف المرتّبات لجميع الموظفين، وإطلاق الأسرى من الطرفَين، وفكّ الحصار عن ميناء الحديدة ومطار صنعاء. لكن في الخفاء، تنشط كلّ من واشنطن ولندن في تعطيل المفاوضات السياسية اليمنية - السعودية، وتربط العاصمتان رفع الحصار الكامل والتقدّم في الملفّ الإنساني بالملفّات السياسية والعسكرية، بهدف إبقاء البلد في حالة اللاحرب واللاسلم لفشلهما في فرض شروطهما على صنعاء
في الأسابيع الأخيرة، تكشّف بوضوح حجم التدخّل الأميركي والبريطاني في اليمن. وكما كان تدخّل واشنطن ولندن مباشراً في الحرب، يحصل الأمر نفسه في مسار مفاوضات السلام، حيث تتولّى العاصمتان عرقلة كلّ الجهود التي يمكن أن تُفضِي إلى السلام، وتضعان من بين أول اعتباراتهما المصلحة الإسرائيلية، وهو ما انعكس على السلوك السعودي في صورة مماطلة في تنفيذ استحقاقات الملفّ الإنساني.
وفي هذا الإطار، تقول مصادر مطّلعة في صنعاء، لـ«الأخبار»، إن «القيادة السياسية في اليمن تعرف منذ البداية أن قائدة العدوان، أي الرياض، غير قادرة على الالتزام بموجبات وقف إطلاق النار والانتهاء الكلّي من تداعيات الحرب، بسبب مجموعة المصالح المتباينة الإقليمية والدولية». وتضيف المصادر إن «أطراف العدوان بقدر ما هم متقاربون ومتّفقون على ضرب استقلال اليمن والنيل من سيادته، بقدر ما هم متعارضون في مصالحهم الخاصّة». وإذ تلفت المصادر إلى أن «قيادة صنعاء غير نادمة على المرونة السياسية التي أظهرتها في المفاوضات»، فهي تنبّه «الرياض ومَن وراءها في حال كانوا يعتقدون بأن الوقت يسير لمصلحتهم»، إلى أنهم «مخطئون، إذ إن قدرات الجيش اليمني تزداد كمّاً ونوعاً، ولا مغالاة في القول إن هذه الزيادة تتمّ لحظوياً في ظروف مؤاتية ومناسبة، فيما سياسة الصبر الاستراتيجي وفّرت حصانة مجتمعية وسياسية ووحدة داخلية ووطنية في وجه قوى العدوان، ومتّكآت جغرافية وديموغرافية صلبة». ومع ذلك، تعترف المصادر بأن «النصر الكامل لليمن لم ينجَز، إذ لا يزال الكثير من العمل مطلوباً لتحصيل كامل الحقوق، وقد لا تكون جولة واحدة محتملة الحصول قريباً، كافية لتحرير البلد بالكامل»، مضيفةً إن «قوى العدوان تعرف أن يدنا دائماً على الزناد، وأن الحسابات السياسية ليست عائقاً أبداً أمام الضغط عليه، وأن ما يؤخّر الفعل الميداني الذي من المفترض أن تكون تداعياته أكبر من حجم المصالح الأميركية والبريطانية، ليس عوائق سياسية، بل الاستجابة للمُهل التي طلبها الوسطاء، وخصوصاً الوسيط العماني، والتي حذّرت قيادة أنصار الله أخيراً من قرب انتهائها».
لا شكّ في أن الحرب الروسية - الأوكرانية خلقت ديناميات سياسية جديدة في العالم، حاولت في خضمّها العديد من الدول العربية الاستفادة من المتغيّرات الدولية والإقليمية وتثميرها في أكثر من اتّجاه، وعلى رأس هذه الدول السعودية، التي أظهرت نيّتها الخروج من المستنقع اليمني بعد عام على الهدنة الإنسانية. ولعلّ الزيارة التي قام بها السفير السعودي لدى اليمن، محمد آل جابر، إلى صنعاء أواخر رمضان الماضي، وما رافقها من توقّعات بقرب الوصول إلى حلّ سياسي، أظهرت كأن قطار السلام بين صنعاء والرياض قد انطلق، وخصوصاً في ظلّ الأجواء الإيجابية التي أرخاها الاتفاق السعودي - الإيراني. لكن الحقيقة هي أن دون انتهاء الحرب في اليمن تعقيدات مرتبطة بمصالح كلّ طرف من أطرافها؛ ففي حين تتطابق المصالح الأميركية والإسرائيلية حول النفوذ في البحر الأحمر وبحر العرب، وتتساوق دولة الإمارات مع تلك المصالح في السيطرة على أهمّ الموانئ والجزر، تبدو السعودية في الموقع المضادّ لتلك الأطراف، من زاوية التنافس على النفوذ.
ثمّة تقديرات إسرائيلية بأن «أنصار الله» امتلكت معدّات عسكرية قادرة على إصابة أهداف في الكيان
والواقع أن هذه التناقضات ليست مستغرَبة؛ فاليمن قريب من ثلاثة مضائق عالمية تُسمّى «المثلث الذهبي»، وهي: باب المندب ومضيق هرمز ومضيق ملقا. وإذا كان هرمز يحوز أهمّية كبيرة لدوره في تدفّق النفط إلى دول العالم، فإن باب المندب، الذي لطالما كان من أبرز أسباب الصراع الذي عاشه اليمن عبر التاريخ، يمثّل اليوم أيضاً واحداً من أهمّ عوامل النزاع، ولا سيما بالنظر إلى حجم القوات الدولية التي تمّ الدفع بها إلى المنطقة بحجّة حماية خطّ الملاحة الدولي في هذا الممرّ، ومنطقة البحر الأحمر وخليج عدن. ويُصنَّف اليمن على أنه دولة بحرية؛ إذ إن لديه شريطاً ساحلياً بطول 2200 كيلومتر يحيط به من الغرب والجنوب، وعلى امتداده موانئ مهمّة وعشرات المدن الساحلية والجزر الحيوية في بحرَي العرب والأحمر. وهو موقعٌ متميّز زاده أهمّية الحضور المتجدّد للصين بعد غياب طويل عن المنطقة، حيث تسعى بكين إلى إيجاد موطئ قدم لها هناك لحماية مصالحها، وتأمين تجارتها من خلال حماية الممرّات المائية.
كما يُعدّ باب المندب شرياناً حيوياً للتجارة الإسرائيلية مع الشرق، والتي تتمّ عبر «ميناء إيلات» الذي يُعدّ الرئة الإسرائيلية الوحيدة على البحر الأحمر. وكانت مصر قد أقفلت المضيق إبّان عدوان 1967، ما تَسبّب بانقطاع ذلك الشريان. ومُذّاك، تعمل إسرائيل على تكثيف وجودها في القرن الأفريقي، ساعية إلى خلق بيئة ملائمة وآمنة للملاحة من قناة السويس حتى المحيط الهندي عبر المضيق اليمني. وثمّة تقديرات إسرائيلية صادرة عن المستويَين الأمني والسياسي بأن حركة «أنصار الله» في اليمن، امتلكت معدّات عسكرية (صاروخية وطائرات مسيرة) قادرة على إصابة أهداف في الكيان، وأن صنعاء في أيّ حرب شاملة تعرف دورها تماماً. وتدرك إسرائيل أن أطراف محور المقاومة يتعاضدون في ما بينهم انطلاقاً من أن كلّاً منهم يؤثّر على الآخر، وخير دليل على ما تَقدّم، السعي الحثيث من دول المحور وجهاته إلى التشبيك في ما سمّي «وحدة الساحات»، وانطلاقاً أيضاً من أن الأميركيين وحلفاءهم يقاتلونهم كافة، ما يوجب عليهم التصدّي الجماعي، كلّ بحسب ساحته وظروفه وإمكاناته.