جلبير الأشقر- القدس العربي-
إنه حقاً تظاهرٌ ليس إلا. وكيف نَصِف بغير ذلك ما قامت به الدول العربية حتى الآن تضامناً مع شعب فلسطين، وأهل غزة على الأخص، في محنتهم الجديدة التي تفوق بكثير كل ما ألمّ بهم في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني؟ إن انعدام التناسب بين حجم القتل والتدمير الجاريين ـ ما غدا حقوقيون دوليون يصفونه بأنه حرب إبادة وتهجير، وهما جريمتان ضد الإنسانية تقترفهما دولة إسرائيل في سياق من جرائم حرب تفصيلية بات إحصاؤها عسيراً لكثرتها ـ إن انعدام التناسب بين تلك الجرائم وردّ الفعل العربي صارخٌ بحيث يفوق صداه صدى الصراخ الذي يصل إلى مسامعنا من داخل القطاع.
فماذا كان ردّ الفعل العربي حتى الآن؟ استدعى الأردن والبحرين سفيريهما من دولة إسرائيل، بلا حتى الإعلان عن تجميد علاقاتهما بها، ناهيكم من قطعها. هذا لا يتعدّى محاولة «رفع العتب» وإن كانت مصر والمغرب لم تقوما بهذا الحدّ الأدنى المتدنّي جداً، فلم تسحبا سفريهما حتى الآن. أما الإمارات فهي أقرب إلى إسرائيل منها إلى «حماس» نظراً لكراهيتها المعروفة للإخوان المسلمين الذين تنحدر منهم الحركة. والحصيلة أن ما فعلته الدول العربية إلى الآن يبقى دون ما فعلته أمريكا اللاتينية النائية عن مسرح الصراع. فقد سحبت أربع من دول أمريكا الجنوبية سفراءها، هي بوليفيا (التي أعلنت فوق ذلك قطع علاقاتها) وكولومبيا والشيلي وهندوراس.
صحيح أنه تمّ أيضاً عقد قمة عربية وإسلامية في الرياض، لكن لم يصدر عنها قرارٌ عملي سوى إرسال وفد لزيارة عواصم الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي بغية حثّها على المطالبة بوقف إطلاق النار. وهذا التحرك لا يتناسب قط مع خطورة ما يجري في غزة وإلحاحه، حيث لن يبقى ما تستطيع إسرائيل إطلاق النار عليه إن طال الانتظار. فما سبب هذا البطء الذي يكاد يساوي عدم الاكتراث؟ هل أن الدول العربية عاجزة في وجه ما يجري بحيث ليس بوسعها أن تقوم بأكثر من إيماءات رمزية؟ أوَليس حال إيران تأكيد لهذا العجز حيث تكتفي بهزّ أحجارها الإقليمية ولا تقوم بأي عمل فضلاً عن المزايدة الكلامية؟
الحقيقة أن الدول العربية، ونخصّ هنا بالذكر تلك للمصدّرة للمحروقات، ليست اليوم في حال ضعف، بل هي أقوى بكثير مما كانت عليه قبل نصف قرن عندما قرّرت مقاطعة الدول الداعمة لإسرائيل إبّان حرب أكتوبر 1973. يومها كان المصدّرون العرب مرتهنين تقنياً بالشركات الغربية ومرتهنين عسكرياً بحماية الدول الغربية في عالم الحرب الباردة. أما اليوم فيحوزون على درجة عليا من الاستقلالية الاقتصادية، وتربطهم بالأقطاب الثلاثة للحرب الباردة الجديدة، أي الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا، علاقات ودّية وقوية.
فضلاً عن ذلك، فإن سوق المحروقات مائل إلى الهبوط منذ شهرين، والأسعار في طريقها إلى العودة إلى ما كانت عليه قبل تفاقم الأزمة حول أوكرانيا في عام 2021. هذا وقد أبدت المملكة السعودية منذ السنة الماضية استعداداً للعمل على رفع الأسعار من خلال تقليص انتاجها بالاتفاق مع روسيا على الرغم من احتجاج واشنطن الشديد وامتعاض سائر الدول الغربية. لكنّ الرياض لم تبدِ حتى الآن أي استعداد لإشهار «سلاح النفط» بالرغم من حرب الإبادة والتهجير الصهيونية وبالرغم من أن مثل هذا الموقف سوف يلقى ترحيباً من روسيا وإيران، إذ يخدم مصلحتهما الاقتصادية.
والحال أن طهران دعت إلى المقاطعة النفطية، وهي السلاح الوحيد الذي ليس استخدامه مكلفاً، بل مربحٌ! صحيحٌ أن ذلك موقف سهل (ليست إيران مصدّرة للدول الغربية بسبب الحظر المفروض عليها) ويندرج هو أيضاً في محاولة «رفع العتب» عن طهران وإلقائها اللوم على الدول العربية. لكنّ هذه الأخيرة لم تكترث حتى الآن، بما يجعلها تتحمّل قسطاً من مسؤولية الإبادة الجارية نظراً لكون «سلاح النفط» أنجع سلاح لديها في الضغط على الدول الغربية كي ترغم إسرائيل على وقف إطلاق النار.
عوض ذلك، ها أن آموس هوكستاين، نائب مساعد الرئيس الأمريكي جو بايدن وكبير مستشاريه في شؤون الطاقة، يصرّح لصحيفة «فايننشال تايمز» قبل يومين أنه واثق من أن الدول النفطية العربية لن تستخدم «سلاح النفط» وأن العلاقات بينها وأمريكا قد توطّدت في الآونة الأخيرة. وكما يوحي اسمه، فإن المذكور من مواليد دولة إسرائيل، يحمل جنسيتها علاوة على الأمريكية، وقد خدم في جيشها. ولا يحتاج الأمر إلى مزيد من التعليق.