(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
"150 يومًا من الحرب الوحشية الصهيونية على غزة، عدد القتلى المعلن كسر حاجز الثلاثين ألفًا، مئات الآلاف محرومين من الوصول إلى أدنى ضروريات الحياة، تحذيرات أممية من عاصفة جوع في غزة، البشر هناك يسقطون من الإعياء وقلة الغذاء، حتى خيام المهجرين في رفح لم تسلم من غارات طيران العدو"..
مع كل هذه الأخبار؛ كان هناك خبر وحيد يتعلق بالسعودية وهو "وصول الطائرة الحادية عشرة للإغاثة إلى أوكرانيا محمّلة بـ80 طنًا من المساعدات الإنسانية"، إذا كان واجبًا وصف هذا الفعل، فهو عورة وفضيحة لا ذرة للإنسانية فيها..!!
قد يندفع دعاة "السلامة" الراقصون وحملة المباخر الرسميون لتسويغ الموقف السعودي بأنه يراعي "الحلف مع الأميركي"، ويعيدوا ترديد قصة العراق الذي جرّب كسر عصا الطاعة لواشنطن، فذاق مرارة الحربين في العام 1991 وفي العام 2003، وانتهى إلى حيث نعلم اليوم، لكن سيفوت الجميع أنّ زمن الهيمنة الأميركية الكاملة بوصفها قطبًا أوحدًا كليّ القدرة والهيمنة والجبروت قد ولّى، وها هي رهاناتها وحلفاؤها ينكسرون في أوكرانيا وفي فلسطين المحتلة، بالرغم من كل ما قدمت لهم أميركا وما تزال تقدمه.
أما عن دعاة المصلحة، فهؤلاء ليس لهم إلا الفكرة الثابتة بأنّ: "صداقة أميركا أخطر بمرتين من عداوتها"، وهي فكرة أساسية في كل علاقات الولايات المتحدة الأميركية، منذ نشأتها وإلى اليوم، فهي أفعى رقطاء تزداد خطرًا كلما اقتربت منها وآمنت لها، ووجود السعودية في خندقها قد يفقدها مع الوقت أوراقها ويبدّد ثرواتها وإمكاناتها، على هيئة الفوائض المالية التي تنقل بانتظام واندفاع واستمرار إلى السوق الأميركية لتنشيطه وتنميته ودفعه، في ما لا نملك هنا إلا الجلوس ورؤية العالم يجري من حولنا، ونحن عاجزون عن مجاراته.
الجميع يريد أن يسوّغ عدم سحب –أو تجميد على الأقل- العرض السعودي الكارثي بالتطبيع الكامل مع كيان العدو، مقابل حزمة مكاسب تخصّ شخص وليّ العهد وطموحه لعرش المملكة، فقد كان ما طرحه "ابن سلمان" قنبلةً هائلة قبل أيام من "طوفان الأقصى"، هو مشروع اتفاق متكامل يقضي بقبول الإدارة الأميركية به ملكًا مقبلًا للسعودية وضمان الحماية العسكرية والأمنية لوجود الفرع السديري في الحكم والبدء في مشروع نووي سعودي، مقابل التطبيع مع الكيان، والذي كان يعدّ وقتها شروعًا في جريمة تصفية القضية الفلسطينية وشطبها تمامًا.
تطورات الأحداث المثيرة والصاعقة قد جعلت من المشروع السعودي وعدًا، لكنه أخلف موعده، بعد أن دهسته النتائج المباشرة والثقيلة لـــ"طوفان الأقصى"، ورمت به إلى حيث يليق بهكذا مشاريع تحاول شطب شعب من الوجود في قاعات المفاوضات والتسويات.
اليوم، كما هو واضح ومباشر، ومن دون حساب للنتائج غير المباشرة أو بعيدة المدى، فإنّ الكيان وداعمه الأميركي ظهرا بأضعف ما تكون صورة القوة الفاعلة، ومدينة غزة الأبية الجائعة المحاصرة قد نجحت في الصمود والقتال لشهور خمسة كاملة في وجه أقوى آلة عسكرية في الشرق الأوسط، معززة بإمداد أميركي وأوروبي لا يتوقف وحماية سياسية تضمن لها ارتكاب مجزرة كل ساعة، كما جرى في مذبحة الطحين الأليمة المروّعة، من دون حساب أو عقاب، هذا كله لم ينجح في اكتساح مدينة واحدة قررت أن تقاوم.
إن مفتاح فهم أزمة اللحظة الحالية في المملكة، حيث تشوّشت المصالح مع المبادئ والأفكار، هو في فهم "هوية السعودية"، فالمملكة في ميزان عالميها العربي والإسلامي كبيرة جدًا، دولة مركزية مهمة، رقم لا يمكن تجاوزه، ويمكن لها ببساطة ومن دون إدعاء أو تكاليف منح نفسها أهمية ضخمة ومستمرة.. وهي في كل الدوائر الإقليمية تعد دولة قائدة، بدايةً من مجلس التعاون الخليجي إلى الجامعة العربية ثم منظمة العالم الإسلامي، أما في صف حلفاء الولايات المتحدة، فهي تفقد كل شيء سوى الثروة، تقف عارية هناك لا يغطيها سوى البترول وأمواله، وتأتي –حتى شرق أوسطيًا- حليفًا من الدرجة الثالثة، خلف الكيان المؤقت وربما خلف قطر أيضًا.