د. رجب بن علي العويسي- عمان اليوم-
الكتاب لغة الحياة، وعنوان تفاصيلها وذكرياتها وتاريخها، يبقى حضوره ما بقي الوعي واستمر الوجود، والحديث عنه في عالم اليوم ومع وجود الفضائيات المفتوحة يبقى كما هو قبل عشرات السنين، بل يزداد رونقا وجاذبية واتساعا وانتشارا، إذ الميزة التي يحملها في ذات القارئ أو الكاتب أو المؤلف، لها من الأثر والشعور الايجابي والتناغم الروحي ما لا يمكن إخفاؤه، لما تحمله من أبعاد الذوق والتذوق لجماليات النص والخطاب، ورونق الكلمة وفهم تفاصيلها بشكل أدق وأوضح، فله خصوصيته التي يتفرد بها من بين وسائل المعرفة الأخرى، بالشكل الذي يمنحها فرص القرب من الإنسان، وزيادة الشغف في نفسه، واكتشاف ما بين سطوره مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة، لسنا مع المتشائمين الذين بدأت نظرتهم للكتاب تفقد بريقها ولمعانها بمجرد ظهور التقنية، ولسنا مع من يقول بأن الكتاب قد انتهى دوره ، وذهب ريحه، بل هو مستمر في حيويته وحياته واشتعال بريقه وجمالية وجوده، يضيف للحياة أبعادا استثنائية، وينقل العقل إلى مرحلة السمو الفكري والعمق المعرفي، لسبر أغوار الحقيقة واكتشاف بدائلها الصحيحة، مستريح في النفس، وله حظوة في القلب، إنه منتج للثقافة، مؤسس للفكر المبدع، متصالح مع الجميع، لأنه يبني في النفس آملا بحياة متجددة، ورغبة أكيدة في تغيير السلوك نحو بلوغ الأفضل، إنه نقلة للعقل والقلب معا، وسموٌ بالفكر والروح في آن واحد.
وإذا كانت معارض الكتاب حاضرة على مستوى التداول عبر أروقة المراكز والمعارض والمؤسسات والمكاتب، فإن لدلالة حضوره معان نبيلة، تُنبئ عن قناعة الإنسان بحاجته إلى الكتاب واشتياقه إليه، وعلى نطاق العالم تبرز قيمة الكتاب في تنقله وانتقاله، يحمل رسالة السلام والود والتقارب بين البشر، ليثبت لهم أنه يتسم بالعفوية والتسامح والتصالح، يؤمن بالعدالة، ويبني مناخات التفاؤل، فلا وجود للأنانية في حضرة الكتاب، ولا مجال إلا لفهم الآخر من خلاله، ودور النشر لن تتوقف ما دام الفكر ناضجا، والقلم مدادا ينتظر الظهور في مغلفات لها من التأثير ما يفوق الوصف ويجاوز بوح الحناجر، إن الإنسانية وهي تدرك قيمة الكتاب تعترف، بأن حقه لن يُهضم، وسيستمر بكل قوة مع كل البدائل المتوفرة، فالكتاب بذاته يحمل البدائل، ويمنح الفرص، ويجدّد في النفس ملامح الشغف الفكري، وتناغم الحواس مع كل أبجدياته، إنّه أنيس الغربة، وصديق الصحبة، الوفّي الذي لا يتنازل عن محبوبه، بل يضيف لحبه أحبابا، ويفتح له من منابر الخير أبوابا، وفي تقليب صفحاته، جماليات غريبه، تُبهج النفس، تتجلى فيها قيمة البحث عن الحقيقة التي يمتلكها الكتاب، وفي مجلداته وبين دفتيه يختزن الفكر الخلاّق، ويحتوي الكلمات الراقية التي تنشر معاني التفاؤل، وترسم خيوط المستقبل .
الكتاب يصنع الثقافة ويُنتج الابداع ، إنه طريق الإنسانية نحو بلوغها النجاح، ووصولها مراتب الفلاح، لقد كانت نهضتها في كتاب، وقامت نجاحاتها على جواهر ما في الكتب من لألئ ومكنونات المعرفة الحقة، فوجدت فيه طريقها للتقدم والتطور، وفرصتها لصناعة الابتكار المنطلق من اكتشاف ما بين السطور من معاني ومفردات وعلوم ، فانطلقت مبادئها مما اختزنته صفحات الكتب وأوراقها، من أبعاد الكلمة ونضج العبارة، ودقة التناسق والترتيب، لقد أتاحت طبيعة العصر والتطور الحاصل في المعرفة الكونية للكتاب؛ فرص التطور والسرعة في الوصول للقارئ على أشكال مختلفة وبأنماط متعددة، وبألوان ثلاثية الأبعاد لصفحاته، وجودة الإخراج، وفنيات الكتابة والخط التي ستضيف للكتاب أبعادا جمالية أخرى، مساندة منها للكتاب ودعما له، واعترافا بفضله، وحرصاً على السير في نهجه. وسيظل الكتاب صفحات مفتوحة لقراءة الحياة من زوايا مختلفة، وبأساليب متنوعة، وبأفكار مختلفة، وهي بتنوعها واستدامتها تبحث في الحقيقة التي تتجلى في أُطرها معايير النجاح وتسلك طريقها سبيل الرشاد ، تهتدي بها في مواجهة صعوبات الحياة وتحدياتها، إنه مؤنسنا وصديقنا في مسار حياتنا وتفاعلنا مع عالمنا، فلنعي أننا بحاجة للكتاب في ذاته وبما يحمله في وصف حقيقته، وبكل الأشكال التي أوجدها العالم، ولنركز اهتمامنا كيف نصنع للكتاب موقعا في نفوسنا، ونصنع منه حضارتنا المجيدة في ظل استثمار تواجده بيننا ورقيا وإلكترونيا على حد سواء.
إن ما يفصح عنه معرض مسقط للكتاب في نُسخه المختلفة من مؤشرات إيجابية، تتزايد عاما بعد عام سواء في اقتناء الكتب أو تنوع الإصدارات أو في زيادة عدد المعروض من المنتج الفكري الوطني، يؤكد بأننا مجتمع يحب الكتاب في شموخه وعليائه وكبريائه، وسيظل كذلك منهل علم، وطريق هدى، ومنبع ضياء، ومنبر حوار، ومنهج عمل، وسمو قيم، ومنظومة مبادئ وأخلاقيات، وسبيل نهضة، وطريقنا نحو التمّيز والتقدم واستراحتنا في إعادة قراءتنا لكل إنجازاتنا وممارساتنا، فمع الكتاب نعيش، وفيه نحيا، وبه نرتقي.