عاصم الشيدي- عمان اليوم-
انتهى أمس معرض مسقط الدولي للكتاب.. انتهت التظاهرة ولكن أثرها سيبقى إلى أن تأتي الدورة القادمة في العام القادم وتبدأ حكاية جديدة مع الكتاب وعوالمه، وسنبقى نعد الأيام إلى أن يأتي فبراير القادم، أو على الأقل إلى أن يأتي معرض قريب منا نستطيع الارتحال نحوه بسهولة. كصحفي حاولت أن أكون قريبًا من المعرض بشكل شبه يومي تقريبًا صباحًا ومساءً.
التقيت بالمنظمين، والتقيت بالعارضين، وروَّاد المعرض من الكبار والصغار وتحدثت معهم أحاديث مطولة أحيانًا ومقتضبة في أحيان أخرى.
وأكتب هذا المقال قبل أن يعلن الرقم النهائي لعدد روَّاد المعرض، لكنه لن يقل، على الأرجح، عن نصف مليون زائر، صحيح أن العشرات أو المئات منهم يتكررون بشكل يومي. ولكن العدد، أيضًا، جيد، إلى حد بعيد، مقارنة بعدد السكان وبالظروف المحيطة بالمشهد. لكن الفكرة التي كنت أحاول أن أرقبها في المعرض، بشغف، ليست الأعداد، بل التوجهات القرائية.
ماذا تقتني هذه الأعداد «الكبيرة» من الناس الذين يزورون المعرض يوميًا من الكتب «على الأقل أتحدث عن الاقتناء وهو بالضرورة مؤشر على نوعية القراءة لاحقًا». ودون أن أدعي الإحصائيات العلمية، ولكن عبر المشاهدات وعبر الأحاديث الجانبية، أقول إن الكتاب «الديني» ما زال المطلوب رقم واحد في المعرض، والأجنحة التي تعرض الكتاب الديني تسجل أكبر حجم من المبيعات. وبالمناسبة الكتاب الديني أسعاره معقولة جدًا، بل رخيصة في الكثير من الدور. لكن هذا لا يعني أن الكتاب الحديث لا يجد إقبالاً جيدًا، بل على العكس.. هناك وعي كبير بأهمية الكتاب الحديث في مختلف مجالاته سواء الأدبية أو الفكرية أو حتى الكتب التي تقدم نقدًا للخطاب الديني الكلاسيكي والكتب العلمية والكتب السياسية «النظرية». ونسبة هؤلاء ليست بسيطة أبدًا. وهؤلاء في اعتقادي يشكلون نواة مهمة للتنوع الثقافي والفكري في أي مجتمع.
وهذه ظاهرة صحية جدًا، فالصوت الواحد والفكر الواحد لا يخلق التنوع ولا يتقدم بالبشرية خطوة واحدة نحو الأمام.. وهذه التنوع مهم من أجل إحداث الهزات التاريخية التي يمكن أن تغير المسارات التي نحتاجها في العالم العربي.
أقول هذا وأنا أعرف، أيضًا، أن دور النشر التي تبيع الكتاب الحديث والمترجم غالية جدا، بل بعضها تبالغ في الغلاء وهدفها ملء الجيوب.
ويمكن ملاحظة أن كتبًا لمفكرين أمثال محمد أركون وجورج طرابيشي ونصر حامد أبو زيد، ومحمد عابد الجابري وسيد القمني وغيرهم من المفكرين العرب تلقى رواجًا كبيرًا..ناهيك عن كتب الفلاسفة والمفكرين الغربيين. إضافة إلى الكتب الإبداعية العالمية التي تقدم تصورات مختلفة للحياة وتحمل داخلها فلسفاتها الخاصة التي يمكن أن نتعرف عليها كحد أدنى من حدود المعرفة ومن أهداف القراءة.
الأمر الآخر والذي يحمل أهميةً كبرى من وجهة نظري أن الرجال والنساء يشتركون تقريبًا في هذه التوجهات القرائية المتنوعة التي لا تنكفئ عند حدود الموروث الفكري أو عند حدود الإنتاج العربي الإبداعي سواء كان قديمًا أو حديثًا. وهذا مؤشر جيد جدًا أيضًا لتكون المعادلة أكثر اتزانًا وأكثر أمانًا. ومن خلال مئات الأصدقاء على «الفيس بوك» بالتحديد نرى حضور الكتاب الحديث والكتاب الفكري منه والفلسفي بشكل مفرح. وشخصيًا جاوبت خلال أيام المعرض على استبانة إلكترونية حول التوجهات القرائية وأشياء أخرى لها علاقة بالمعرض وتنظيمه. ومثل هذه الاستبانات مهمة جدًا لصناع القرار وليست للمنظمين فقط. لا بد أن يكون صانع القرار عارفًا بالتوجهات الفكرية -التي تحددها القراءة إلى حد بعيد- للأفراد المجتمع.
وفي الختام إذا كان معرض مسقط الدولي للكتاب قد سجل نجاحًا آخر هذا العام فإن الذي أنجحه -بعد التنظيم الجيد وبعد سقف الحرية المرتفع- هم الأفراد، ووعيهم المرتفع. أنجحه الأفراد لأنهم هم المشترون الأكبر عددا، ومعرض مسقط لا يعول دائما على مشتريات المؤسسات بل على مشتريات الأفراد.
وأتمنى أن يكون هؤلاء الأفراد، والتظاهرة بشكل عام، قد استطاعت أن تستفز الفئة، الكبيرة أيضا في المجتمع، من الذين يبقون دائمًا لا علاقة لهم بالكتاب لا من قريب ولا من بعيد رغم قدرتهم على اقتنائه، استفزتهم لزيارة المعرض، ولاقتناء الكتاب ولو أول كتاب لهم في الحياة. فالقراءة كما يقال دائما أكثر من حياة.