ثقافة » نشاطات

سوق عكاظ ومهرجان قريش

في 2016/08/16

ما زال مهرجان سوق عكاظ في دورته العاشرة يحصد الاهتمام، وربما في هذه الدورة – التي لم أتمكن للأسف من تلبية دعوة كريمة إليها- حظي بتغطية أكبر من ذي قبل، وبمتابعة واسعة على شبكات التواصل الاجتماعي. هذا المهرجان الذي يستحضر روح المكان وهيبة التاريخ، ويستلهم منهما ما يمكنه أن يعيد به تعريف نفسه ليكون مناسباً للزمن الحاضر، فيحتفي بالعلم كما الشعر، وبالتقنية كما الأدب، وبالفكر كما ريادة الأعمال، وكذلك بالإبداع والفنون بمختلف أشكالها، كالرسم والتصوير والفلكلور الشعبي. عكاظ هو هدية منطقة مكة المكرمة وإمارتها -التي تنظم وتشرف على المهرجان- للوطن بشكل خاص وللعرب بصفة عامة. فهل يمكن أن يكون هناك من يعترض على إقامة سوق عكاظ وشعاره "منتدى الحياة"؟

الإجابة للأسف نعم! وهو أمر يثير الاستغراب ولا يثيره في آن معاً. فقد تعودنا أن لكل مناسبة جميلة أو فعالية يتيمة في بلادنا، خاصة إن ارتبطت بالثقافة، أعداء، وهم أعداء الحياة والفرح، وأرباب ثقافة الكفن وفارشي التراب. وكأن الله خلقنا لنموت لا لنحيا ونعمر الأرض حتى يعلمنا عز وجل بأن مهمتنا انتهت ويقبض أرواحنا. من هذه الناحية لم تكن فكرة وجود معترض على سوق عكاظ غريبة. إنما الغريب في الموضوع هذه المرة، ليس استنكار الفئة التي تعترض على الاختلاط حتى في المسجد الحرام، وإنما أن يعترض أو يتحفظ عليه مثقفون ومعتدلون لأمور لا علاقة لها بالاختلاط والموسيقى، وإنما بدعاوى غريبة يكاد المرء لا يجد لها تصنيفاً منطقياً.

فبعد عشر دورات، تذكر البعض بأن عكاظ منتدى جاهلي، وأنه منتدى قريش – للعلم فُتحت مكة وأسلمت قريش كلها بحمد لله- وأنه يحيي تاريخ الجاهلية! وكأن الجاهلية هذه ليست جزءاً من التاريخ العربي، وليست جزءاً مهماً من تاريخ الجزيرة العربية التي تشغل المملكة العربية السعودية المساحة الأكبر منها. فهل كل أمور تلك الحقبة شر محض؟ ألم يقر الرسول صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق التي كان عليها العرب وقت بعثته، وبيّن أنه إنما جاء متمماً لها؟ ألم يبارك المصطفى حلفاً جاهلياً وهو حلف الفضول، وقال بأنه لو دعي إليه في الإسلام لأجاب؟

لا شك أن الرسالة المحمدية هي أعظم ما يمكن أن يحصل للعرب، وبها سادوا ونشروا العلم وصنعوا الحضارة، لكن هذا لا يعني أنهم لم يكونوا قبلها شيئاً مذكوراً. وإلا لما اختارهم الله ليخرج من بينهم آخر نبي ورسول، ولما كانت بلادهم القبلة والمحج، ولا صارت لغتهم لغة آخر الكتب وأشرفها. فهذا الجفاء وهذه العداوة مع التاريخ العربي قبل الإسلام من قبل عرب أقحاح أمرٌ غير مفهوم! أيمكن أن يذكر الشعر العربي دون المرور على امرؤ القيس أو زهير بن أبي سلمى وكلاهما من شعراء الجاهلية؟

أما الحجة الثانية، الأكثر غرابة، أن فيها تفضيلاً لمنطقة في المملكة على المناطق الأخرى، بتخصيص مهرجان يقام فيها. وكأن إقامة مهرجان في منطقة ما يمنع أخرى من القيام بالشيء نفسه. فإذا كانت إمارة منطقة مكة المكرمة اجتهدت وعملت لتنتج مهرجاً يحتفي بالوطن والتاريخ والثقافة والعلوم، وينعش المنطقة سياحياً، خاصة مدينة مثل الطائف التي كانت تسمى مصيف الملوك، وتراجعت في العقود الأخيرة مكانتها السياحية كثيراً، وها هي تحاول بجدارة استعادتها، خاصة بجوها الرائع في هذا الصيف اللاهب. إذا كانت إمارة مكة قد فعلت ذلك، فمن الذي يمنع البقية من إقامة مهرجان في منطقتهم، مستفيدين من تجربة مهرجان سوق عكاظ؟

الغريب أنه لم تكن هناك هذه الحساسية من مهرجان الجنادرية، فهو منذ ثلاثين سنة في الرياض دونما اعتراض. فلم يقل أحد إن الجنادرية هي مهرجان منطقة الرياض فقط، بل هو المهرجان الوطني للتراث والثقافة الذي نعتز به جميعاً. وبالمناسبة وجود مهرجانين للثقافة لم يؤثر على بعضهما سلباً، وها هما يستمران جنباً إلى جنب، دعماً للثقافة والمعرفة والفن. الطريف أن العرب قديماً، وهم يومها قبائل لا تجمعهم دول، وبعضهم بينه وبين قريش ثارات وعداوات، كانوا يشدون الرحال إلى عكاظ للتنافس الشعري في كل عام، بينما يعتبر مواطن سعودي الطائف بعيدة جغرافياً أو نفسياً؟

ويقدم المتحفظون لنا اقتراحات من أجل مهرجانات وطنية بديلة عن سوق عكاظ، إما في مدينة مكة المكرمة أو المدينة المنورة، لتكون احتفاء بالتاريخ الإسلامي، وكأن مكة والمدينة ينقصهما تعريف وترويج وسياحة. الازدحام فيهما كبير ما بين الزوار والمعتمرين والحجاج من الداخل والخارج، وباستثناء أن يكون المهرجان موجهاً لهذه الفئات بعينها، فإنه من الأفضل إبعاده عن المناطق المزدحمة مثل المدينتين المقدستين ومثل جدة والرياض.

هذا الجدل حول سوق عكاظ، أخذني إلى أبعاد أعمق، وذكرني بمواقف أخرى، كان يُطلب منا أن نفعل هذا الشيء أو لا نفعله، بدعاوى الولاء. فهناك من ناحية الوطنيون المتعصبون الذين يعتقدون بأن اهتمامك بقضية إسلامية، أو احتفاءك بإنجاز لدولة أو فرد مسلم، يتعارض مع كونك سعودياً، فاهتمامك وحبك يجب أن يكون لوطنك السعودي وأهله فقط. ومن ناحية أخرى الأمميون الذين يعتقدون بأن افتخارك بوطنك، واحتفاءك بنشيده الوطني وبمنجزاته وتاريخه، إنما يتعارض مع انتمائك لأمة الإسلام. والفريقان على ما يبدو لديهما مشكلة في اعتزازك بعروبتك وبتاريخك العربي قديماً وحديثاً. فهل المطلوب أن تكون سعودياً أو عربياً أو مسلماً في الانتماء والولاء؟

في الواقع لا يمكن للمرء إلا أن يكون هذه الثلاثة معاً، فكل منها يمنحك جزءاً من هويتك وشيئاً من شخصيتك، وبدون أحدها سيكون هناك نقص وعدم توازن. فجيناتك عربية وكذلك لغتك، وإيمانك ومعتقدك يجعلانك مسلماً، ووطنك حيث تعيش وتنتمي قلبياً وجغرافياً ورسمياً، ومن الطبيعي أن تعتز وتنتمي لكل واحد من هذه العناصر، لأنه لا تعارض بين هذه الانتماءات الثلاثة أصلاً. وهناك انتماء أكبر للبشرية وللإنسانية، فالله جعلك قطرة من محيط كبير فلمَ تختر أن تكون قطرة في كأس صغير؟

مرام مكاوي- الوطن السعودية-