رغم أنهم قلة٬ فإنهم مؤثرون. وبسبب صوتهم العالي وقدرتهم على التحشيد٬ وبسبب غض الطرف عنهم٬ والتواطؤ العام على عدم الاصطدام بهم٬ أصبحوا يشعرون بفائض قوة يعجزون حتى عن تصريفه لصالحهم٬ كما يشعرون باستملاك رمزي للأرض والثقافة والهوية والوطن٬ وكل المشتركات الأخرى.
لا نتحدث عن المتدينين٬ مادام التدين يقود صاحبه حكًما للشراكة والعدالة والمساواة٬ لكن نتحدث عن فئة اتخذت التدين والمحافظة «آيديولوجيا» للهيمنة على المجتمع وتكبيل حركته والافتئات على الدولة ومصادرة حقها. الفئة التي تتصدى لكل محاولات التحديث والتجديد باسم الحفاظ على صورة قديمة وقالب عتيق يسهل من خلاله بسط نفوذهم٬ الفئة التي تقاوم الحداثة وتمنع المجتمع من أن يتطور ويتحول ويجد طريقه بين الأمم المتحضرة والشعوب الراقية.
العداء الشديد للفن والمسرح والرياضة والسينما والمرأة يقابله نزوع نحو التسلط والتعالي واحتقار التعايش والانفتاح على الثقافات المتعددة٬ هؤلاء يعرفون جيًدا أن الفن وإظهار السعادة والفرح نقيض لثقافة الموت والخوف التي تسهل سيطرتهم على الناس.
امتداًدا لموقفهم من كل مناشط فنية وثقافية لا تخضع لهيمنتهم٬ كمعرض الكتاب٬ ومهرجان الأفلام٬ يأتي هجومهم المتكرر على «سوق عكاظ»٬ لكن الغرابة في التهم التي يلصقونها به٬ فتهمة الاختلاط والمعازف وتشجيع العلمنة لم تعد كافية٬ حتى جاءوا فقالوا إن «سوق عكاظ» يعيد إحياء «الجاهلية» ويشجع على التفاخر بالأنساب عن طريق الشعر. حسًنا.. من يسمع هذا الكلام يظن أن هؤلاء دعاة تآٍخ وتسامح ومساواة٬ وضد النعرات العصبية٬ التي في أقل القليل ليس لهم أدنى إسهام فكري أو معرفي أو ثقافي أو اجتماعي في مكافحتها والحد منها٬ بل لديهم إسهامات ملموسة في إنعاشها حتى أصبحنا نبتلي بمظاهر شاذة تمنع تكوين الهوية الوطنية وتضع العراقيل بين اندماج السكان على أساس الوطن وليس العصبيات المضادة للوحدة.
يخافون من إحياء ثقافة الجاهلية٬ لكنهم يعلمون أن الجاهلية شهدت حلف «الفضول»٬ الذي شهده الرسول الكريم في شبابه وأثنى عليه٬ الحلف العربي الأول الذي ينتصر للمظلوم من الظالم٬ ويمنع الظالم القوي من الاحتماء بصمت النخبة التي ينتمي إليها..
أما «عكاظ» فكان في عرف العرب الذين ابتكروه قبل سبعين عاًما من الهجرة وعلى مدى قرنين من الزمان أكثر من مجرد مناسبة للمبارزة الشعرية٬ والتفاخر بالأنساب والبطولات٬ فقد مثل ملتقى سنوًيا لإنشاد الشعر والتعريف بالنوابغ الأدبية ووضع موازين للقوافي ومعايير للأدب الرفيع٬ حيث تنتخب منه أفضل القصائد لتصبح من المعلقات٬ وتتم فيه إجازة الشعراء والاعتراف لهم بالسبق٬ فقد كانت تضرب للنابغة الذبياني٬ مثلاً٬ قبة حمراء من أدم٬ فيأتيه الشعراء ليعرضوا عليه أشعارهم.
كما مثل السوق موسًما لاستعراض مواهب القبائل العربية في الحكمة والتقاضي. وكان «عكاظ» درة التاج ضمن 3 أسواق عرفها العرب في الجاهلية: «عكاظ»٬ و«مجنة»٬ و«ذي المجاز».
وحين عاد «سوق عكاظ» بعد غفوة طويلة٬ امتدت لنحو 1300 سنة٬ في نفس موقعه التاريخي في العرفاء شمال شرقي مدينة الطائف٬ فإنه جاء حاملاً إرادة التجديد٬ حيث لا يكتفي بربط الماضي بالحاضر٬ بل يفتح نافذة واسعة تطل نحو المستقبل وآماله وطموحاته٬ واضًعا من الحوار أساًسا٬ ويسعى لخلق فضاءات حرة أمام المثقفين للتعبير عن تطلعاتهم وآمالهم.
الهجوم على «عكاظ» مجرد وسيلة للحد من حركة المجتمع نحو الحداثة٬ ووسيلة تقليدية لربط عجلة التقدم نحو المستقبل٬ هذا المستقبل الذي يستعصى على الثقافات الظلامية والإقصائية الوصول إليه٬ فنحن إذن بين ثقافتين متضادتين:
واحدة تجذبنا للأمام٬ وأخرى تشدنا لكهوف الماضي٬ وبفضل إرادتنا للحياة سنسير حتًما للمستقبل٬ وسنبني حداثتنا وهويتنا الجامعة.
ميرزا الخويلدي- الشرق الاوسط السعودية -