الفعالية الثقافية التي احتضنها مركز الملك فهد الثقافي الخميس الماضي، بعنوان: «نغمات ثقافية»، والتي حوت فقرات من الموسيقى الشرقية والغربية والفن التشكيلي، تعتبر بداية مرحلة جديدة في مسيرتنا الثقافية، إذ حضرها جمهور تجاوز الـ3 آلاف من الرجال والنساء بتنظيم رائع، كما خصص للنساء مقاعد محددة.
تفاعل الجمهور مع الفعاليات بشكل إيجابي وجميل ولم يحدث ما تخوف منه البعض من تجاوزات، والتي أعتقد أن بعض التيارات المحسوبة على تيارات دينية خطفت وعزلت المجتمع عن مناشط فنية وثقافية إنسانية، هي من كان يعارض إقامة مثل هذه الفعاليات، وكان خَيَار تلك التيارات خطاب متشدد من خلال منابر عدة، منها مثلاً إقامة المخيمات الصيفية، وزيارة المقابر التي خطفت عقول صغارنا في مرحلة ماضية، أو بدعوى الخصوصية المحلية. تلك الأنشطة لتلك التيارات الظلامية وللأسف خلقت ثقافة مجتمعية منغلقة تعادي الفنون والانفتاح، وكرست فكر التشدد والتطرف ونبذ الآخر، ولا أبالغ إن قلت إن الفراغ الروحي الذي يعيشه الإنسان وبخاصة الشباب لدينا دفعهم للإرهاب والهرب من الواقع المغلق إلى مثل تلك الأعمال، ووضع على بعضنا مسؤولية تصحيح أوضاع العالم، طبعاً لا ننسى قيادات ورموز هذا التيارات الإسلاموي الذي لا شك وظف ثقافة الانغلاق وكره الحياة لأهداف سياسية واضحة، فتلك الرموز هي من حارب الفن بأشكاله المتعددة بدعاوى وتفسيرات دينية عليها خلاف فقهي، مثل قضية الاختلاط وتحديده الدقيق، ومن المفارقة أن رموزهم تجدهم في فعاليات ومؤتمرات سياسية بالخارج وهم بين نساء وأتباعهم بالداخل لا يبررون لهم، وقس على ذلك بكثير، فتجدهم يحرمون الفنون وعمل المرأة مثلاً، ولا يرون بأساً أن تعمل في دول إسلامية يتفقون مع توجهاتها السياسية.
اختيار «موسيقى الجاز» في هذه الفعالية، وهي كما هو معروف نشأت في أميركا في مدينة نيو أورليانز في ولاية المسيسبي منتصف القرن الـ19 وارتبطت بثقافة السود هناك ومعاناتهم في مرحلة العبودية في ذلك المجتمع، لا شك أنها تعبر عن معاناتنا نحن من سيطرة ثقافة ظلامية نحاول أن نتحرر منها.
في فترة الستينات، دول عربية على رغم اتفاقنا أو اختلافنا معها سياسياً، مثل مصر في المرحلة الناصرية، وسورية في فترة البعث، كان لأنظمتها دور رائد في رعاية الثقافة التقدمية بأشكالها كافة، من دعم تأليف الكتب ورواية وشعر وقصص، إضافة إلى الاهتمام بالفنون من سينما ومسرح. الفكرة أننا في مجتمعاتنا الشرقية لا بد من دور رسمي للدولة لرعاية الفنون والآداب، وتجربة الكويت الرائدة في ذلك يشهد لها الجميع، على رغم ما اعتراها من ضعف لظروف سياسية معروفة.
في المملكة، الدور الرسمي في رعاية الثقافة بأشكالها مهم في المرحلة الحالية، ورعاية فعالية «نغمات ثقافية» هي بداية الطريق، إضافة إلى إنشاء هيئة عامة للترفية ننتظر منها الكثير، هذا من ناحية، على الجانب الآخر هناك مطالب عدة من مشروع التحول الذي تمر به المملكة لا يمكن فقط أن يكون اقتصادياً، فهذا الجانب كان مفتاح التغير الثقافي والاجتماعي والسياسي في بعض الدول ولا نكون بعيدين عن هذا الوضع، فالمجتمع المغيب لسنوات طويلة نجده يتقبل التغير الاقتصادي ويبرر له، ولكن أن يصل التحول إلى الوضع الثقافي والاجتماعي نجد حرباً شعواء وكأن هذا المجتمع سيدخل في صراع وهمي مع ذاته.
إن قطار الحياة والفرح انطلق في مجتمعنا وعلينا دفعه والاحتفاء به، فهذا هو طريقنا الوحيد لـ«أنسنة» مجتمعنا واللحاق بركب الدول المتحضرة.
عقل العقل- الحياة السعودية-