وكالات-
رغم مرور ما يزيد على 17 عامًا على وفاة «طلال بن أحمد بن جعفر الجابري» في الخميس 10 من جمادى الأولى 1421هـ الموافق 10 من أغسطس/آب 2000 وهو على المسرح يغني في مدينة أبها السعودية، لكنه ما يزال حاضرًا بقوة في المشهد الغنائي السعودي بل العربي، إذ يعتبر «طلال الجابري» المعروف بـ«طلال المداح» رائد الأغنية السعودية الحقيقية، أو بحسب قول منافسه المطرب «محمد عبده»: «طلال هو رجل الأغنية السعودية الأول وهو الأصل ونحن نتفرع منه» (1).
ومؤخرًا، بالتحديد في 2 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي كرمت اسم الراحل دار الأوبرا المصرية في حفل افتتاح دورتها الـ26، عرفانًا بدوره المتميز في نشر الفن وتقديرًا لمسيرته الفنية بحسب وزير الثقافة المصري ورئيس دار الأوبرا المصرية (2).
قال عنه الأمير الشاعر «بدر بن عبدالمحسن»: «أصبح اسم طلال مداح في كل قلب وعلى كل شفاه.. وتجاوز الفن الغنائي السعودي بفضل صوته حدود الوطن ليصل للعالم العربي كله، وتميزه وتفرّده ليس فقط في صوته اللين الدافئ القوي، إنما في شخصيته البسيطة الطيبة، وأفكاره وفلسفته الخاصة للأشياء وعنها».
ومن أجمل ما قيل في «صوت الأرض»، كما لُقبَ الراحل، وصف الأمير الشاعر «محمد العبدالله الفيصل» عنه، مؤلف أغنية «مقادير»، حيث قال: «طلال المداح تاريخ، وتاريخ الأغنية السعودية كانت بداياته الفعلية على يد طلال مداح واشتهرت بفضل طلال المداح رغم محاولات من سبقوه» (1).
البدايات ونكهة العفوية
على أن مسيرة «المداح» ووضعه الأسس الأولى للغناء السعودي لم تخل من العفوية التي كانت تلف مختلف مجالات الحياة في المملكة بل الخليج، وعُرفَ عن والده أنه جاء من حضرموت قبل عام 1359 هـ ليعمل سقاء في أحياء مكة المكرمة ثم يتزوج وينجب «طلال» عام 1940.
لكن الفقد كان حاضرًا في نشأة وتربية «المداح» بقسوة إذ فقد أمه صغيرًا وقيل إنها انتقلت لرحمة الله وهي تلده، لينتقل الرضيع إلى كنف خالته وزوجها «علي عبدالحميد المداح»، والذي حمل اسمه لاحقًا إلى عالم الفن والشهرة.
نال «المداح» قسطًا من التعليم قيل إنه وصل للشهادة الابتدائية وإن لم يكن هناك دليل على ذلك، وفي بداية حياته بدأ يعمل ساعيًا للبريد، ولحبه الفن سماعيًا عبر الإذاعة بخاصة لأغاني «محمد عبدالوهاب»، «فريد الأطرش»، و«أم كلثوم»، وراح يغني في الأفراح في الطائف وما حوالها، وذات مرة سمعه مدير عام الإذاعة «عباس فائق غزاوي» فدعاه للتسجيل فيها، وكانت البداية مع أغنية «وردك يا زارع الورد» عام 1959، ومن هنا بدأ يتفرغ للأغاني والموسيقى ومشاهيرهما في المملكة.
ثم حلا له السفر إلى مصر، ليلتقي بـ«غازي علي»، «عبدالله محمد»، «طاهر زمخشري»، و«طارق عبدالحكيم»، وأيضًا «محمد عبدالوهاب»، الذي لحن له أغنية وغيره من مشاهير المغنين، كـ«صباح» التي التقاها في فيلم «شارع الضباب» في بيروت بعد هزيمة 1967 ولم ينجح العمل كله بأغانيه، ثم استقر في جدة؛ وظهر منافسًا له «محمد عبده»، حتى قيل إن أحدهما لم يكن يغني في مدينة عربية إلا ويهرع الآخر ليغني فيها، كما لم تخل حياتهما من الطرائف والمقالب التي كانا يدبرانها لبعضيهما(3).
مع حفلات «أضواء المدينة» المصرية ثبت خطاه الفنية، وفي السبعينيات اشتهرت أغنية «مقادير» ونالت مكانة كبرى بين أغاني «المداح، ولعله وجد في كلماتها الحزينة وإيقاعها الصاخب عزاءً عن فقد الأم مبكرًا، وابتعاده عن الأب، وقسوة حياته العاطفية التي جعلته يتزوج 3 مرات، كانت كلمات «مقادير» لـ«محمد العبدالله الفيصل» وتلحين «سراج عمر»، وهي تقول:
«مقاديرياقلب العنا
مقادير وش ذنبي أنا
مقاديروتمضي حياتي
مشاوير واتمنى الهنا
مقاديرمقادير
على ميعاد حنا والفرح كنا
وكنا بعاد وعشنا على الأمل حنا
وكان الفرح غايب
وأثر الأمل كاذب
مقادير»
ومنذ السبعينات لازمته معاني الأغنية، أما قلبه فأجرى جراحة به عام 1998، ليعرف «العنا» المادي بعد المعنوي، وتبقى الأغنية مميزة بين 700 أغنية له، وشركة «سويعات الأصيل» التي أسسها، والأصوات الفنية التي أطلقها مثل «عبادي الجوهر»، و«عبدالله نجار».
عام 1985 كرمه الملك الراحل «فهد بن عبدالعزيز آل سعود» بـ«ميدالية الاستحقاق».(4).
توقع طريقة وفاته
جاءت إجابة «المداح» عن سؤال في برنامج «كشف حساب» الذي قدمه الإعلامي «سلامة الزيد» مخيفة بعدما وجه «الزيد» سؤالاً إليه عن ابتعاده لبضعة أعوام عن الحفلات الغنائية في تلك الفترة قائلاً: «أبوعبدالله المهرجانات الفنية أصبحت ضخمة، وأصبحت رعايتها أرقى مستوى من الحفلات القديمة وطلال لا يزال مصرا على قراره الابتعاد عن الحفلات.. ما حاولت تراجع هذا القرار لو في مهرجان من المهرجانات المنقولة فضائياً والمخدومة».
فضحك «المداح» ثم أجاب إجابة غريبة: «يا خويا مأنت شايف ما شالله تبارك الله (عزرائيل) بيخطف الجماعة واحد واحد»، وكأنه يتوقع أن منيّته ستكون على المسرح، وحينها اكتفى المذيع بترديد: «لا إله إلا الله»، فأضاف «المداح»: «علشان صحتي لا أقل ولا أكثر ما بقدر أنا.. عشان أوقف على المسرح 4 ساعات أو 3 ساعات ونص أو ما شابه ذلك ما عندي الجلد هذا.. فالبقية الباقية من الصحة الواحد يحاول يمشي بها في مسار الحياة بعيداً ما تكثر توعكاته» (5).
أما عن آخر حفلاته في أبها في 10 من جمادى الأولى 1421هـ الموافق 10 من أغسطس/أب 2000، فروى «عبداللطيف إدريس» عضو الفرقة الموسيقية، لحظة وفاة «المداح»، قائلا: «اختفى صوته على المسرح وبعدها سمع صوتا من بعيد ينادي (أبوعبدالله لا تموت) ثم سقط طلال على الأرض والعود معه وبعدها حملناه واستلمه المسعفون ولفظ أنفاسه الأخيرة في سيارة الإسعاف قبل أن يذهب للمستشفى» (6).
الهوامش:
(1)ـ العربية نت في 11 من أغسطس/أب 2013.
(2)ـ العربية نت في 2 من نوفمبر/تشرين الثاني 2017.
(3)ـ لها في 21 من فبراير/شباط 2011.
(4)ـ جريدة الجزيرة في 2 من مارس/أذار 2001
(5)ـ العربية نت في 11 من يناير/كانون الثاني 2018.
(6) ـ روتانا في 14 من يونيو/حزيران 2017م.