ثقافة » نشاطات

«العاصوف» لم يعصف بقيمنا يا سادة

في 2018/06/05

سلطان البازعي- الحياة السعودية-

قال محسن الطيان: «هذه المشكلات ليست لنا نحن أبناء الحمايل، هذه للآخرين نتفرج عليها ونسخر منها». قال كلمته هذه في نقاش ساخن بينه وبين أمه وإخوته حول من ارتكب جريمة إنجاب اللقيط، وهذه الجريمة هي التي أثارت نقاشاً ساخناً في المجتمع السعودي منذ بداية شهر رمضان، والنقاش لم يكن حول الجريمة بحد ذاتها، وإنما عن مشروعية عرضها ضمن مسلسل يفترض فيه أن يتحدث عن المجتمع السعودي في إطار زماني ومكاني محددين.
محسن الطيان هو أحد شخصيات العمل الدرامي «العاصوف» الذي حظي بأكبر قدر من النقاش والضجيج حوله حتى قبل أن يبدأ بثه، وهذه الشخصية هي لشاب أعزب متعلم حاصل على درجة في القانون من مصر، يعيش في بيت أسرته وينغمس في قضاياها، بينما قلبه معلق بالقاهرة وحبيبته التي يراسلها ويعدها بالزواج، لكنه في المجمل يمثل شخصية المثقف المتعالي على الحي الشعبي الذي يعيش فيه، كما يبدو من حرصه على أناقته ومكانته الوظيفية وسيارته ولبس البيجاما حينما يكون في البيت.

لست من هواة متابعة المسلسلات التلفزيونية، فليس لي جلد على متابعة تطورات الخط الدرامي عبر 30 حلقة أو تزيد، لكن أهمية مسلسل «العاصوف» أتت من كونه أول محاولة تلفزيونية جادة لتقديم المجتمع السعودي في حقبة زمنية شهدت الكثير من المتغيرات السياسية والاقتصادية، كما أنها أتت من الهجوم على المسلسل من حلقته الأولى، وهو هجوم يقول عنه بطل المسلسل ناصر القصبي في حديث صحافي إنه «مدفوع»، على اعتبار أن العمل يتعرض لبدايات تغلغل جماعات التفسير المصلحي والسياسي للإسلام، وفق وصف الباحث الدكتور توفيق السديري، وأبرزهم الإخوان المسلمون في فترة السبعينات الميلادية والتي أنتجت ما عرف بالصحوة في المجتمع السعودي.

ولا أريد هنا أن أناقش هذا الجانب من المسلسل، لأن مهاجمة المسلسل من هذه الزاوية كانت متوقعة، إلا أنها لم تكن منطقية لأسباب كثيرة؛ منها: أن المسلسل تعرض لوجود تيارات أخرى كانت تحاول التأثير في المجتمع وأبرزها التيار الناصري القومي، والذي كان له في تلك المرحلة حضور عدائي حركي واضح يتجه لتغيير الحالة السياسية ولو بالقوة وإثارة القلاقل، بينما كانت التيارات الإسلاموية في حالة سكون وتستخدم القوة الناعمة في التغلغل في مفاصل التأثير في القرار.

لكن الملاحظ أن الإسلامويين أخذوا خط اللعب على الوتر العاطفي للمشاهدين في مهاجمة العمل، تارة بالزعم أنه يشوه تاريخ السعوديين بتصويرهم أنهم كانوا منحرفين تشيع بينهم الفاحشة، وتارة أخرى بأن المسلسل يدعو صراحة للقبول بالعلاقات المحرمة وانتهاك الأعراض، وأنه يركز على إبراز النماذج السلبية، بينما تمتلئ الحارة التي تدور فيها الأحداث بالشخصيات الإيجابية.

ومن هذا المدخل العاطفي ظهرت أصوات تتبنى هذا الخط، ولا أجد ما يلخصها أكثر من العبارة التي وردت على لسان شخصية محسن الطيان، وكأنهم يريدون تجريد المجتمع السعودي من إنسانيته ورفعه إلى درجة المجتمع الملائكي الطاهر الذي لا يخطئ، وإن أخطأ فلا يجب الحديث عن هذا الخطأ.

كاتب المسلسل الدكتور عبدالرحمن الوابلي رحمه الله وصانعوه وفي مقدمتهم نجم العمل ناصر القصبي، نجحوا وبشجاعة تحسب لهم في تقديم صورة قريبة من الواقعية حول التفكير المجتمعي السلبي الذي لا علاقة له بالقيم الدينية أو الأخلاقية، وتعرّضوا لقضايا مسكوت عنها، مستخدمين رموزاً ربما خفيت على كثير ممن تحدثوا عن المسلسل حتى الآن، سواء المهاجمين له أم المدافعين عنه، وربما يكون السبب في ذلك أنه لم تظهر كتابات نقدية حقيقية للعمل انتظاراً لاكتمال حلقاته.

أول هذه القضايا تكمن في كون واقعة الحمل باللقيط تمت في بيت من بيوت المهمشين في المجتمع، فالفتاة هي ابنة الدلالة التي تطوف على البيوت ببضاعتها، وهي بالطبع تنتمي لطبقة لا تعد من طبقة «الحمايل»، ويظهر المسلسل هذه المرأة بأنها عمدت للتكسب من واقعة حمل ابنتها سفاحاً، لكن المفاجأة أتت من كون الطرف الثاني في الجريمة هو ابن «الحمولة»، والذي لم يكن غير الشاب المثقف المتعلم في الخارج والذي بدأ المسلسل مدافعاً عن الفضيلة وحريصاً على انتزاع اعتراف من أخيه، وتكتمل تراجيديا التناقض الاجتماعي حين يتم حل إشكال الطفل اللقيط بطريقة تحفظ اسم العائلة لكنها لا تعالج مشكلته –حتى الحلقة العاشرة التي شاهدتها ساعة كتابة هذه المقالة-، والملفت أن الأسرة بأكملها تواطأت لتنفيذ هذا الحل غير الشرعي بمن فيهم الأخ الأكبر الذي هو إمام المسجد، وهو الذي اكتشف اللقيط وأتى به إلى حضن الأم الكبيرة، لكنه لم يعترض والسبب الواضح لهذا التواطؤ هو الحرص على عدم إفساد مشروع زواج شقيقتهم للقريب الآتي من القرية.

«العاصوف» عمل فني ويجب محاكمته على هذا الأساس، ولم أرَ حتى الآن أنه قدم أنموذجاً سلبياً على أنه إيجابي، بل أنه عرض وفي شكل شجاع إخفاقات اجتماعية نحتاج للتخلص منها للحفاظ على قيم الإسلام الأخلاقية والإنسانية، التي نتمسك بها ونريد غرسها في الأجيال القادمة، ودور الفن هو في تشريح هذه الأخطاء والإخفاقات للتوعية بدورها السلبي في حياتنا.

تخيلوا فقط لو أننا استمرينا بإنكار مشكلة المخدرات والتطرف في مجتمعنا ولم نتحدث عنها كتابياً ودرامياً، ماذا كانت ستكون حال مكافحة هذه الآفات؟ الخلل في إي مجتمع إنساني، وخاصة في مجتمع مسلم، هو الشذوذ الذي يؤكد القاعدة.

أظننا بحاجة إلى أكثر من عاصوف يزيل الغبار فيظهر المعدن الحقيقي للأرض والإنسان.