علي عبيد- البيان الاماراتية-
قبل ثمانية وعشرين عاماً، كان الزمن يمضي بوتيرة تختلف عما نراه يمضي عليها اليوم. كانت دولة الإمارات العربية المتحدة تقترب من إكمال عاملها السادس عشر، وتتقدم نحو المستقبل بخطى واثقة ونفس مطمئنة، لأنها قامت على أسس ثابتة ومبادئ مستقرة، وكان جيل من أبنائها الذين ولدوا قبل قيام الاتحاد، قد أكمل تعليمه الجامعي..
واحتل مواقعه في مختلف مؤسسات الدولة التي كانت تبهر العالم بحركة نموها، وسرعة دوران عجلة تطورها التي كسرت القواعد المتعارف عليها في نمو الدول وتطورها. في تلك المرحلة، تلفتت مجموعة من أبناء الوطن ذوي الاهتمامات المختلفة حولها، فرأت حركة العمران تحيط بها من كل ناحية، رأت الطرق تشق وترصف لتربط نواحي الدولة ببعضها..
ورأت المطارات والموانئ تقام، وتتم توسعة ما هو قائم منها لتستوعب أعداد القادمين إلى هذه الدولة الفتية، ورأت المدارس والجامعات تشهد نمواً مطرداً لتخرّج أجيالاً جديدة من أبناء الوطن المتسلحين بالعلم والمعرفة، للمساهمة في البناء والنهضة..
ورأت المباني ترتفع هنا وهناك، لتغير معالم مدن الدولة التي كانت بيوتها ترتفع بالكاد أمتاراً قليلة فوق الأرض عندما وُلِدوا على هذه الأرض الطيبة، فالتقت نظرة هذه المجموعة على أن ثمة منجزاً عمرانياً ينهض على الأرض شامخاً..
وأن هذا المنجز العمراني قائم على إرث حضاري يجب أن يكون له دور في النهضة التي كانت تشهدها الدولة وقتها، وأن هذا الدور يجب أن يقوم على قاعدتين أساسيتين، هما الثقافة والعلوم.
لمعت الفكرة في رؤوس هذه المجموعة، فقررت أن تؤسس هيئة يلتقي تحت مظلتها أبناء الوطن الذين يجمعهم هذا الشغف، لتولد «ندوة الثقافة والعلوم» في الثالث من شهر نوفمبر عام 1987 في إمارة دبي، التي كانت تركز وقتها على الاقتصاد، في إشارة واضحة إلى أن الثقافة لا تنفصل عن الاقتصاد والتجارة، وأنهما يتكاملان، إذا توفر من يستطيع المواءمة بينهما،..
ولم يكن ثمة من هو أكثر جدارة بهذه المواءمة، من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذي يجمع بين النظرة الاقتصادية والبعد الثقافي العميق، فكانت رعايته لهذه الهيئة الثقافية غير الحكومية، هي القاعدة الراسخة القوية التي تأسست عليها، ومضت بعد ذلك واثقة الخطوة مرفوعة الرأس.
لماذا اختارت تلك المجموعة من أبناء الوطن، اسم «ندوة الثقافة والعلوم» لهذه الهيئة، في الوقت الذي كانت فيه الهيئات الثقافية الأهلية والحكومية، غالباً ما تختار لنفسها أسماء تربط بين الثقافة والفنون، أو الثقافة والتراث؟ هذا سؤال لم يُطرَح وقتها، ولا في المراحل التي تلت مرحلة التأسيس، حتى غدت الندوة اليوم، واحدة من أكبر الهيئات الثقافية الأهلية في الدولية...
لكن طرحه اليوم أصبح ضرورياً، بعد أن استحدثت الندوة جائزة جديدة ضمن جوائزها العديدة، أطلقت عليها جائزة «شخصية العام العلمية»، تكرم من خلالها الشخصيات والمؤسسات التي قدمت خدمات علمية للدولة، واختارت لها في دورتها الأولى، شركة أبوظبي لطاقة المستقبل «مصدر»، لتقف إلى جانب جائزة «شخصية العام الثقافية»، التي أسستها الندوة منذ أعوام عدة.
تكمن الإجابة في النظرة الاستشرافية البعيدة التي كان يتمتع بها مؤسسو الندوة، وإدراكهم أن طموحات قادة وشعب الإمارات سوف تتجاوز الكوكب الذي نعيش عليه، لتذهب إلى الكواكب الأخرى، وأن هذه الطموحات لن تتحقق إلا بالاهتمام بالعلوم ورعايتها، وتشجيع أبناء الوطن على الانخراط في مجالاتها المختلفة..
وهو ما نراه اليوم في تخطيط دولة الإمارات للوصول إلى كوكب «المريخ» عام 2021، ليكون هذا الإنجاز درة احتفالات الدولة باليوبيل الذهبي لقيامها، ومرور خمسين عاماً على تأسيسها، وهو هدف تطلّب تحقيقه إنشاء وكالة للفضاء، تعمل على مشروع لإرسال أول مسبار عربي وإسلامي إلى كوكب المريخ، بفريق عمل إماراتي، معلنة بذلك دخول الإمارات قطاع تكنولوجيا الفضاء..
وإدراجه ضمن محركات نمو الاقتصاد الوطني خلال السنوات المقبلة، والعمل على بناء كوادر إماراتية متخصصة في مجال تكنولوجيا الفضاء، كي تكون الإمارات ضمن الدول الكبرى في مجال علوم الفضاء قبل عام 2021.
واليوم، تحتفل «ندوة الثقافة والعلوم» بتكريم مجموعة جديدة من حملة درجات الأستاذية وشهادات الدكتوراه في مختلف التخصصات، ضمن جائزة راشد للتفوق العلمي، جرياً على عادتها كل عام..
وتكرم للمرة الأولى «شخصية العام العلمية» التي اختارت لها في دورتها الأولى، شركة أبوظبي لطاقة المستقبل «مصدر»، التي تأسست عام 2006، كي تعكف على تطوير الأثر الصديق للبيئة، لتحديد طريقة عيشنا وعملنا في المستقبل، وكي تكون حلقة وصل بين الاقتصاد الحالي القائم على الوقود الأحفوري، واقتصاد طاقة المستقبل، في إطار دمج البحوث والابتكار مع الاستثمار والتنمية المستدامة.
وحين تقدم الندوة على خطوة مثل هذه، فهي تفعل ذلك، انسجاماً مع توجه دولة الإمارات، الذي يجعل من العلوم هدفاً أساسياً، وتحقيقاً لرؤية مؤسسي الندوة الاستشرافية التي وضعت «العلوم» في صدارة أهدافها، وعملت خلال السنوات الثماني والعشرين الماضية، على رعاية ذوي المواهب العلمية، من خلال «نادي الإمارات العلمي» التابع للندوة..
والذي يعتبر الذراع التي تحقق هذا الهدف الرئيس من أهداف الندوة الكبرى، فهنيئاً لدولة الإمارات العربية المتحدة بقادتها الذين لا يغفلون جانباً من جوانب الحياة، ويضعون العلوم في صميم اهتمامهم وخططهم المستقبلية، ومبارك لندوة الثقافة والعلوم، هذا الإنجاز الذي يواكب هذا الاهتمام، ويؤكد النظرة الاستشرافية للقائمين على هذا الصرح الثقافي العلمي، الذي يعد مفخرة للوطن وأبنائه المخلصين.