(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
منذ قديم الأزل، وإلى اليوم، وفي المستقبل، فإنّ الشّرط الأولى لأي مشروع تطويري يتعلّق بالجماعة البشريّة يبقى هو التعلّم، من الحضارات القديمة التي سعت إلى ترسيخ المعابد الوثنيّة لتكون مدارسَ أوليّة لتخريج القادرين على القيادة، محمّلين بعلوم زمنهم ومعارفه، أو كما لخّصها الفيلسوف الإغريقي أفلاطون: "إذا أهمل انسان التّعليم، فإنّه يمشي أعرجًا حتى نهاية حياته"، إلى الجامعات التقنية الحديثة، التي انتشرت في دول العالم المتقدّمة كلّها اليوم معتمدة على الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وأصبحت عنوانًا للتجاوب مع سؤال ماذا نعد للغد؟.
التّعليم لم يعد قضية ثانية أو بندًا على جدول الأولويّات في العالم كلّه، وتجارب التنمية في الكوكب كلّه، شرقًا وغربًا، كانت تقوم أولًا على صناعة نظام تعليمي جديد، مثلا فاتحة لتغيير المجتمع عند أساسه تمامًا. والمثير في هذه التجارب أنّها أثبتت بالأرقام والنتائج أنّ أكثر الاستثمارات نجاحًا وربحًا هو التّعليم، رغم طول المدّة الزمنيّة التي تستلزمها عمليّة تخريج صفوف جديدة من الجيل الجديد، وضخّهم في الدّورة الدمويّة للمجتمع، ليعيدوا توجيهه وضبطه، وربما بعثه. وأفضل من قدّم الربط بين التّعليم الجيد والإنسان هو "غاري بيكر"، في نظريته المعنونة بـ"رأس المال البشري"، حين أكّد بالبيانات أنّ العلاقة بين الحصول على تعليم كفء ومستوى حياة الفرد والأجور والقدرة على التغيير هائلة وأكيدة.
البنك الدّولي، في تقاريره المتتالية، يدعو قادة العالم إلى اعتبار التّعليم الجيد هو التحدّي القائم أمام الحكومات. ويقول البنك الدّولي، في مذكرة بحثية عن تحديّات عالم ما بعد كورونا، إنّه فضلًا عن كون التّعليم أحد بنود حقوق الإنسان الأساسيّة، فهو المحرّك الرئيس للتنمية، وأهم أدوات الحدّ من الفقر وتحسين الصّحة والمساواة وتحقيق الاستقرار للمجتمعات. ويضيف البنك أنّ التّعليم يتيح للدول عائدات هائلة ومستمرة من الدّخل القومي، وضمان هدفي الإنصاف والشمول. وبالنسبة إلى المواطن؛ فإنّ الدّراسات تثبت أنّ التّعليم الجيد يحقّق زيادة في نسب التوظيف والدّخل والصّحة. وعلى الصعيد العالمي، هناك زيادة بنسبة 9% في الأجر مقابل كلّ عام إضافي من التّعليم المدرسي. وبشكل عام، فإنّه يدفع النّمو الاقتصادي على المدى الطويل، ويحفّز الابتكار ويدعم المجتمع ويعزّز التماسك الاجتماعي.
في قلب أي عمليّة تطوير شاملة لمجتمع بشري، تبقى رغبة المجتمع في التحديث متعلّقة أولًا برؤيته وبوعيه. وهذان العاملان يرتبطان مع الحصول على تعليم قادر على توفير خريجين يملكون الأسباب الثلاثة الرئيسة لتحريك بلادهم وتنشيط المفاصل المتيبسة "التفكير، الإنتاج، الإبداع". وتاليًا؛ فإنّ التّعليم في قلب هذا كلّه هو الحلّ المناسب في استطاعته الأكيدة وفي وقته السّليم.
ولأنّ أي عملية تطوير، في غياب برنامج شامل للتعليم، يضعه هدفًا أولى وسبيلًا تستند عليه الطموحات وآمال التغيير، فإن "رؤية المملكة" قد اشتملت منطقيًا على اهتمام خاص بالتّعليم، عن طريق حزمة من البرامج التي بدت واعدة ومثيرة للشغف. فحاولت تصوير أهداف الرؤية النهائية لمجتمع حيوي واقتصاد مزدهر ووطن طموح بأنّه يأتي تاليًا لخطط شاملة وعميقة تستهدف تطوير العنصر البشري، عبر قرار دخول الدّولة على خط معركة نسف النظام التّعليمي القديم، ورفع شعار الجودة في الوضع الجديد.
يمكن فهم خطوات هيئة تقويم التّعليم والتدريب السّعوديّة على هذا الأساس، وهو أساس منطقي وسليم، بأن النظام الجديد برمّته سيقوم حول الطالب وتحويله إلى محور العملية التّعليمية، بشكل يجعل من الجهود منسقة والخطوات واضحة والآليات مفهومة لكلّ عناصر العمليّة التّعليمية، من المجتمع إلى الطالب إلى المعلم، وتعديل خطاب الهيئة وتبسيطه من أجل ضمان دعم المجتمع كلّه لهذه العمليّة الحيويّة الجديدة.
من المنطقي، أيضًا، أن تحاول وزارة التّعليم تحديث برامج التدريس، بشكل مستمر، وآخر ما أعلنت عنه الوزارة رسميًا هو ضمّ مناهج جديدة إلى الثانويّة العامّة، بداية من العام الدراسي المقبل. وهي تضمّ مواد: الإدارة والفعاليات، مبادئ القانون، علوم الأرض والفضاء، هندسة البرمجيّات، أنظمة الجسم، تخطيط الحملات التسويقيّة، الرعاية الصحيّة، الذكاء الاصطناعي، الأمن السّيبراني. وهي كلّها مواد مستحدثة، تحاكي وتواكب أحدث ما توصل إليه الإنسان، وتحاول استشراف المستقبل عبر تزويد الطلاب بهذه المعارف الضروريّة التي أصبحت رهان العصر وسباقه.
النقطة السّلبيّة، والتي تمثّل الكارثة في التوجه الجديد للهيئات التّعليميّة في المملكة، هي قناعاتها التي تحاول وضعها وزراعتها في النشء بشأن عدد من القضايا التي تمثل مسلّمات وبديهيات للمجتمع، في إطار قرارها بتخفيف المناهج الدينيّة التي تمسّ قلب الدّين. فعلى سبيل المثال؛ فقد حذفت وزارة التّعليم من المناهج الجديدة كلّ ما يتعلق بالجهاد، وكلّ ما يمسّ الصّراع بين المسلمين وغيرهم، قد يكون هذا مطلوبًا إن كنا نتعايش في عالم خيالي بلا صراعات ومصالح ورؤى مختلفة للعالم، من الأطراف كلّها.
هذا التغيير المخيف أشار إليه تقرير ما يسمّى بــــ"معهد مراقبة السّلام والتّسامح الثقافي في التّعليم المدرسي" الصّهيوني، والموجود في مدينة القدس المحتلّة، بشأن النّهج الذي يرونه مختلفًا وجديرًا بالملاحظة، في مادة التفكير النقدي بإلقاء الضوء على معاهدات سلام أو اتفاقياّت بين الرسول الأكرم والمجتمعات المختلفة في المدينة المنورة أو حولها، مثل اليهود ونصارى نجران وغيرهم، ما يفتح الباب واسعًا نحو تغيير جذري في نظرة المجتمع السّعودي للصراع العربي- الصّهيوني، وإسقاط أهمّ ما نملك من أسلحة وهي العقيدة، باستبعادها تمامًا من العقول.
ما يجري من تغيير يتضاد وإرادة المجتمع ونظرته وفهمه لنفسه، وواقعه وتعامله مع غيره، ليس ضروريًا أن يكون تغييرًا إيجابيًا وإلى الأمام، قد يكون عصفًا بالعقول والإيمان بلا نتيجة، ومحاولة تخليق مجتمع جديد مروض ومنزوع الأظافر، لا يملك الإرادة ولا الوعي، وهذه قد تكون أي شيء، سوى أن تصبح وصفة للتحليق والنّجاة.