ثقافة » تربية وتعليم

حملات لتجهيل المجتمع

في 2015/10/16

خالد عباس طاشكندي- عكاظ السعودية-

انتشر مقطع فيديو مؤخرا لطفل وهو يحمل وعاء مليئا بحليب الإبل، يبدو أنه حلب من ضرع الناقة مباشرة، وقام بشربه أمام الكاميرا غير عابئ بتحذيرات الأطباء التي تنادي بضرورة غلي حليب الإبل جيدا قبل تناوله، ثم هم بتوجيه رسالة بذيئة إلى وزارة الصحة، مرددا بلهجة دارجة: «تخسى الكورونيا»، في إشارة منه إلى مرض «كورونا»، ثم تمادى ووجه الكلمة ذاتها متطاولا على الوزير، وكان من الواضح أن مصور الفيديو قام بتلقين الطفل هذا الكلام حتى يوصل رسالة واضحة، ومغزاها الاستخفاف بالمرض وإنكار علاقته بالإبل، وعدم قبول تحذيرات الصحة من خطورة المرض الذي أثبتت دراسات علمية وجود علاقة بين الفيروس والإبل.

ومن المؤسف أيضا، انتشار العديد من مقاطع الفيديو المشابهة عبر وسائل التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، ويظهر فيها بعض الأفراد وهم يستعرضون فوائد شرب حليب الإبل الطازج دون غلي، في محاولة لنشر رسالة هدفها ضرب جهود وزارة الصحة التي تسعى جاهدة لتطويق المرض والحد من انتشاره، بحجة أن الإبل تعني الكثير لملاكها، سواء من حيث الثقافة الاجتماعية في البادية أو من حيث «الاستثمار» وجني الأرباح، خاصة أن أسعارها وصلت إلى مبالغ فلكية.

ونتفهم أهمية الإبل منذ القدم لدى جميع أبناء البادية في الجزيرة العربية بشكل عام، وما زالت كذلك، وربما ساهم التطور التقني الهائل في وسائل التواصل الاجتماعي في الترويج والحفاظ على ثقافة الاهتمام بالإبل التي قيلت فيها آلاف القصائد والشيلات، كما أن هناك جانب اقتصادي هام جدا، فقد جذبت سوق الإبل الكثير من أرباب الملايين ومن خلال المهرجانات التي يتغنى فيها الشعراء بالإبل النادرة وبملاكها، ويقيم سعر الناقة الذي قد بلغ ملايين الريالات في حالات عديدة، بناء على عدة معايير منها الشكل وحسن الطباع وكثرة درها للحليب، ويرى الكثيرون بأن الإبل تستحق هذه المبالغ الهائلة، ويستندون في ذلك إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم»، والمقصود بحمر النعم هي الإبل، فقد جعل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قيمة كبيرة للإبل بإشارته لها مقارنة مع هداية رجل للإسلام بعد الكفر.

ولكن أهمية الناقة لدى بعض شرائح المجتمع والعوائد الاقتصادية من أسواق الإبل لا تطغى على أهمية الحفاظ على الصحة العامة وعدم تعريض حياة الآخرين وأمن المجتمع للخطر، فمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية أو فيروس «كورونا» المنتشر منذ 2012 حصد مئات الأرواح وبما يعادل 43% من المصابين، وبحسب منظمة الصحة العالمية، تتصدر المملكة أعلى معدل للإصابة بالمرض في العالم وأعلى معدل للوفيات الناجمة عنه، وتشير المعلومات أيضا إلى انتقال المرض عبر المملكة والدول المجاورة إلى أماكن أخرى من العالم، مثل انتقال المرض إلى كوريا الجنوبية، بمعنى أنه بات مهددا للصحة العالمية، وقد قطعت وزارة الزراعة كل الشكوك والادعاءات السطحية عن عدم علاقة فيروس «كورونا» بالإبل بعد أن أجرت الوزارة دراسات واختبارات ميدانية ووجدت أن من 85% إلى 87% من الإبل سواء المحلية أو المستوردة أصيبت بالفيروس في فترة من فترات حياتها، وأن 3% إلى 3.5% من الإبل الموجودة لدينا هي مفرزة للفيروس، كما أن وزارة الصحة قامت بإبلاغ وزارة الزراعة عن 70 حالة إصابة بشرية مخالطة للإبل بمختلف مناطق المملكة، وتم تغطية جميع البلاغات بالكامل من قبل فرق وزارة الزراعة بحسب ما أكده مؤخرا وكيل الوزارة الدكتور حمد البطشان، وهذه النتائج أثبتتها الأبحاث التي أجراها أربعون فريقا استقصائيا وثمانية فرق في كل منطقة من مناطق المملكة وقام بها مئة كادر بيطري على ثمانية آلاف حيوان في المملكة وجاءت النتائج وجود حالات إيجابية عن إصابة الإبل بفيروس كورونا بنسبة معينة في مختلف مدن المملكة.

ولذلك علينا أن لا ننساق خلف دعوات شرب حليب الإبل والاستهانة بمسألة ارتباط فرص انتقال المرض من الإبل المصابة إلى الإنسان، وتوظيف شبكات التواصل لنشر المقاطع التي تناقض الحقائق العلمية وتستخف بها هو ترويج لتجهيل المجتمع وتغييب للحقيقة، ويعتبر جريمة بكل المقاييس، لأن من يشارك في نشر وترويج هذه المقاطع يساهم في انتشار المرض ويتحمل وزر مئات الضحايا الذين فتك بهم هذا الفيروس الخبيث، ومن بينهم أطفال ومسنون ونساء حوامل.

أما مقطع الطفل الذي تحدثنا عنه في مقدمة المقال ففيه مخالفات قانونية وجنائية حيث خالف مصور الفيديو التحذيرات العامة التي أطلقتها وزارة الصحة واستغل طفلا ووظفه للإساءة إلى المسؤولين، وبالتالي خالف بالنص المادة السادسة من نظام مكافحة جرائم المعلوماتية التي تعاقب بالسجن لمدة تصل إلى خمس سنوات وبغرامة تصل إلى 3 ملايين ريال لمن يقوم بإنتاج ما من شأنه المساس بالنظام العام أو الآداب العامة، أو حرمة الحياة الخاصة، أو إعداده، أو إرساله عن طريق الشبكة المعلوماتية، وبالإضافة إلى مخالفة المادة الثامنة من النظام والتي تعاقب من يقوم بالتغرير بالقصر واستغلالهم عبر شبكة الإنترنت.

لذلك.. لم يعد الجاهل عدوا لنفسه، وفقا للحكمة الشهيرة، بل عدوا للمجتمع، لأن الجاهل أصبح يمتلك أدوات فاعلة لتجهيل الآخرين بسبب تطور وسائل التواصل، وأمثال هؤلاء تنطبق عليهم أبيات الشاعر العباسي صالح بن عبدالقدوس:

وإن عناء أن تـفـهـم جاهـــلا

فيحسب جهلا أنـه منك أفهـم

متى يبلغ البنيان يوما تمامـــه

إذا كنت تبنيه وغيرك يهــدم