عبده الأسمري- الشرق-
قبل زمن وعندما كنت في المرحلة الابتدائية كان آباؤنا حينها رغم تعليمهم المحدود وأمية بعضهم يتابعون تحركاتنا وسكناتنا.. يبحثون عن الزملاء بل ويحبون الأصدقاء ممن يرتبط آباؤهم بصداقة معهم، وكان المعلمون حينها بمنزلة ضباط مباحث ورجال استخبارات مهمتهم البحث في السلوك والسيرة والتوقع والفكر.. كبرنا وكبرت معنا رقابة داخلية صُنعت فينا منذ الطفولة، وكانت اللقاءات في المدرسة أو في مجاميع التقوية أو في الدورات الرمضانية أو في المنازل باشتراط وقت يحدده الآباء وإلا فإن المصير علقات ساخنة وحرمان مؤقت من هذه الصداقات البريئة والعفوية التي تجمعنا فيها الرياضة أو الدراسة أو الزمالة، لا نملك هواتف جوالة أو أجهزة محمولة، ولكنا نمتلك خوفاً مبرراً بشأن الرقابة ونحمل على عاتقنا توقعات الآخرين عن أسوأ التقديرات رغم براءتنا وعفويتنا.
في الجامعة في أواخر التسعينيات بدأت أمواج السلفية تضرب بأطنابها في أعماق الشباب، وبدأنا نلمس التدين وجحافل من المتشددين هنا وهناك، واتسعت تلك لتشكل سواداً طمس معالم البراءة والسواء والعقل والمنطق.. كانت الاجتماعات تدار في المراكز الصيفية وداخل مقرات الاجتماعات، بدأت الموجة عاتية، وأعلنت مدها إلى نفوس الصغار والصبية وجزرها لتستمد الفتاوى وحتى الهقاوي من أنصاف الشيوخ وأرباع المتدينين وعديمي الفكر، وثمة مراجع ذاتية كتبت بحبر الإرهاب الأسود وعبارات القتل والإيذاء والإقصاء لكل من يختلف مع التوجه ويخالف التوجيه.
كان التدين المفاجئ حينها واضحاً على ملامح بعض الجامعيين آنذاك يساندهم بعض ممن سبقوهم بالتشدد، وكان المجتمع حينها وبسذاجة يوقن ويتيقن أن هؤلاء الملتزمين هم جند الله في الأرض وأنهم حماة الدين وأنهم جباة المعروف. مرت السنون.. ظهرت ملامح الإرهاب.. خرجت الحقيقة المدوية ما بين التدين المفاجئ وبطولات الأحزمة الناسفة والعقول المغسولة بفكر التشدد والقتل والترويع.
ضرب الإرهاب وعملياته المذيلة بتواقيع الخونة المقدرات الوطنية والممتلكات.. رأينا بعد عام 2001 مئات القوائم التي لا تزال الداخلية تعلنها من حين إلى آخر.. من القاعدة إلى داعش.. تفصيلات القصة والقضية.. الهوية إرهاب وقتل وترويع والهواية ممارسة أصناف الأذى بالآخرين.. المقومات إعفاء سريع للحية أو بدايات تدين أو التزام بالنهج والمنهج وثورة حماس للشباب وللمراهقين تنتهي بالتورط في عمليات إرهابية تستهدف الوطن والأمنيين.
أعتقد أن هنالك من كان يخشى أو يتوانى عن الإبلاغ عن أبنائه، وهنالك من كان يرى التدين على ملامح ابنه الذي كان يلعب البلوت ويمارس التفحيط وينام النهار ويسهر الليل وفي ضحية وعشاها بات شيخاً وطالب علم وطالب فضيلة، ومع وجود الغفلة أصبح بعد فترة مطلوباً للعدالة.
في حرب أفغانستان والبوسنة وغيرهما من مواقع الحروب كانت تأشيرة الهروب إلى مواقع الضلال تلك تأشيرة تنقل بين الدول، ورسالة صغيرة إن كان الابن الهارب رحيماً بذويه، أو اتصالاً من إحدى الدول، وكان آخرون يتجهون إلى تلك المواقع بحيل حب العمل الخيري وحفر الآبار وبناء المساجد.
مع داعش أصبحت التأشيرات أعراس دم وجنوناً سلوكياً يبدأ من تدين مبكر وسكر أولي على عتبات الجحيم.. سمعنا وشاهدنا قصصاً لعشرات الصبية الذين لا يميزون بين الفرض والنافلة ولا بين الهدف والأسلوب.
ما أود قوله إن هنالك آباء كانوا في غفلة عن مراهق يتأبط جهازه المحمول ليلا ونهارا، وآخر يرمق إخوته في المنزل بنظرات الكفر، وثالث يتدين بشكل فجائي ويتحول من شخص سوي بريء إلى ناصح يهذي ليلاً ونهاراً.. لم تلتفت الأمهات أيضا في ظل انشغال الأب بسهرات الابن خارج المنزل وتواصله مع الشبهات باسم الدين والتدين.. لم تفك أُسر عديدة أسرار وألغاز منابت شعر دخيلة باتت ملمحماً من ملامح شاب أعفى لحيته قبل أن يعفي قلبه من ضغائن الجهل وحماقات الضلال.
خرج من تلك الأسر من استقاموا بأرواح صلبة متشددة بالدين فتحطموا في معاقل داعش، وتم بناؤهم بلبنات ملوثة وبأنفس مريضة وبأدمغة فارغة تم حشوها بالتدمير والكفر ليحاربوا الدين والآمنين. خرجوا وكان في عقولهم جرعة ملوثة جاءتهم من مواقع الإنترنت أو الحسابات المضللة أو شلل الفساد، وانطلقوا وعلى وجوههم ملامح الجاهلية وأفكار مريبة تحت ستار تدين مفاجئ انطلقوا إلى ساحة داعش. كان على الأسرة رصد تفاصيل تلك الشبهات حتى وإن كانت شبهاً مجهولة لدى بعض الأسر أو مقبولة أو متقبلة لدى آخرين حتى تمنع رحلة الضلال من بدايتها، وعلى الأسر بمختلف طبقاتها أو أفرادها مراقبة التدين المفاجئ؛ فقد شكّل وسيظل إدانة أولى لشباب قد نراهم أعضاء في كتيبة داعش السوداء أو دعاة على أبواب جهنم أو هالكين في دمائهم في عمليات ضد الوطن ومقدراته والمراقبة ثم البحث في أي سلوك مريب غريب؛ فأي بداية لجنون بشري أو سلوكي فإن نهايته حتماً ستكون معسكرات داعش وساحات الإرهاب.