أصدر عدد من الدعاة والمشايخ بيانا يتضمن التحذير من الغلو في الدين، والاستهانة بالتكفير، بالإضافة إلى إدانة الأعمال الإجرامية التي نفذها التنظيم الإرهابي "داعش" في مسجدي العنود والقديح، الأمر الذي أدّى إلى مفاسد عظيمة والتي من أبرزها: إثارة الفتن والصراعات داخل المجتمعات الإسلامية الآمنة.
لا شك أن البيان السابق يعد خطوة جيدة في مكافحة الإرهاب، بل ومطلوب في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها المجتمعات الإسلامية، ورغم أهمية هذا البيان إلا أن هناك بعض الملاحظات التي تؤثر على فاعليته في عملية تجديد المفاهيم الدينية في مواجهة الخطاب المتطرف الذي تستند عليه التنظيمات الإرهابية في استغلال الشباب وفي الحصول على الأموال في تمويل عملياتهم الإجرامية.
لقد تحدثت في مقالات عديدة أن التنظيمات الإرهابية تستغل الموروث الديني وتفسيراته القديمة في تبرير عملياتها، بالإضافة إلى استغلال قابلية التبعية والتقليد في المجتمعات المتدينة، خاصة من صغار الشباب، إضافة إلى أن الخطاب الديني السائد لا يعترف بالتعددية الدينية والنقد، الأمر الذي يؤدي إلى العنف في التعامل مع الآخر.
ومن وجهة نظري، جاء بيان الدعاة ورجال الدين أقل من التوقعات والطموحات المطلوبة، فكان مجرّد دفاع عن الخطاب الديني السائد، والرفض القاطع لتجديد الموروث، وعدم الاعتراف بالتعددية الدينية كقول "العقائد المنحرفة" و"المبتدعة"، والخوف على المكانة الاجتماعية للدعاة ورجال الدين!
فماذا صنع الخطاب الديني للتراث من تنقيح علمي؟ ولماذا لا يتحرّك الدعاة ورجال الدين تجاه نقد وتحقيق الآراء والتفسيرات الموجودة في كتب التراث؟ فعندما تستغل التنظيمات الإرهابية مثل "القاعدة" و"داعش" القصص والروايات المتعلقة بأمور مثل الخلافة والجهاد والشرك ودفع الجزية والرق وقتل المرتد وغيرها من المفاهيم.. أليس معنى ذلك تطبيقا عمليا لتلك النظريات والمفاهيم على أرض الواقع؟!
قد يقول قائل بأن تلك التنظيمات الإرهابية تقوم بتأويل باطل للروايات والتفسيرات الدينية الموجودة في كتب التراث بخلاف مناهج العلماء..! وهذا القول قد يكون صحيحا ولكن يا ترى ما هو منهج هؤلاء العلماء في ذلك؟ خاصة أن كل مذهب من المذاهب الإسلامية يجزم بأنه على الحق المطلق وغيره على الباطل المطلق، وربما كان الآخر كافرا في النار.. هذا من جانب.
ومن جانب آخر، فإن التنظيمات الإرهابية هي الأخرى تعتبر منظريها وقادتها من العلماء الربانيين وأولي الأمر المطاعين، وغيرهم من الخوارج الضالين، فكيف يستوي النقاش مع هؤلاء حول تلك المفاهيم؟ فعندما يقول رجل الدين إن محاربة غير المسلمين من المعاهدين جرم وشرّ عظيم.. فكيف يستوي هذا القول إذا كانت التنظيمات الإرهابية ترى أنهم غير معاهدين من "الخليفة" الذي بايعوه؟
الخطاب الديني السائد للأسف، خطاب منبري وتبليغي فحسب وليس خطابا تحقيقيا وعلميا، وهو مطالب بتبيين موقفه من كثير من الآراء والتفسيرات الدينية التي تتحدث عن الجهاد والكفر والشرك وأحكامها، تلك الروايات التي لا يتجرأ أي شخص أن يتحدث بها على المنبر وينتقدها.
للأسف بعض الدعاة ورجال الدين يتعامل مع بعض التفسيرات والروايات بآليات الخفاء والتمويه أو من منطق الدفاع والخوف على زعزعة إيمان الناس، فهذا الأسلوب ليس منهجا علميا، فالعلم يحتاج إلى النقد والصراحة، أما التمويه والكيل بمعيارين والتكلم بمنطقين فربما يكون نافعا في سوق التجارة ولكن ليس صحيحا في دائرة العلم، فعدم حل المسألة وإبقاؤها مجملة وغامضة ليس من شأن العلم على الإطلاق.
أما الملاحظات الأخرى على بيان الدعاة، فهي الحساسية المفرطة تجاه نقد الخطاب الديني، حيث جاء في البيان ما نصه "استغلال أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين لهذه الأحداث للطعن في الدين، والجرأة على أصوله ومحكماته" وهذا للأسف من الإشكالات التي دفعت الخطاب الديني إلى الوراء بدلا من دفعه إلى الأمام، وأدت إلى النظرة إلى كل فكر جديد بنظر الشبهة والبدعة، وبالتالي الضعف أمام الخطاب الإرهابي المتطرف الذي يستغل ذلك لصالحه.
فتبقى الآراء والنظريات الموروثة القديمة هي المهيمنة على الخطاب الديني، ووظيفة الدعاة ورجال الدين هي حماية وحراسة هذه النظريات والآراء القديمة وباب النقاش والسؤال موصود في هذا المجال، ولا يسمح لأحد بإبداء رأيه في مقابل رأي الفقيه الفلاني أو الداعية الفلاني، فكل سؤال أو علامة استفهام تعتبر "شبهة" وبمجرد أن يطلق على السؤال لفظ شبهة، فسوف يفقد مضمونه واحترامه وهو سؤال شيطاني يجب قمعه بأي صورة، فسائله منحرف عقديا ويتبع هواه!
ومن هذا المنطلق، يتم تكريس التبعية والتقليد في المجتمعات الإسلامية، وكأن جوهر الدين يتلخص في ذلك، فكما هو معلوم أن غالبية الناس تسأل رجال الدين في كل صغيرة وكبيرة، حتى في التحليلات السياسية والاقتصادية، وهم في ذلك مكلفون أن يقبلوا ويعتنقوا ما يقوله رجال الدين، ولا مجال للبحث والنقاش بين الناس والفقهاء.
وهذا من شأنه إحداث الإرباك والتناقضات في نفوس الناس، والتشويش في عقولهم ناهيك عن زراعة الخوف في قلوبهم من إثارة الأسئلة، فترجح كفة الانقياد والاتباع ويضعف سراج العقل أكثر فأكثر، بالإضافة إلى أن تقديس الدعاة يفرز كثيرا من الآفات والسلبيات من أبرزها احتقار النفس والتحرّك خارج إطار النظام والقانون فيكون الأفراد والرموز الدينية محترمين لا القانون، فيتم التضحية بالعقل والعلم والنفس أمام أعتابهم وأقدامهم.
وهذا لا يعني ألا نحترم علماءنا ولا نسمع أقوالهم ولا نرفع مكانتهم، ولكن الكلام يدور حول خطورة التضحية بالعقل وعدم التفكير والنقد والتحليل، فالانقياد الأعمى هو وقود التنظيمات الإرهابية، وإلا كيف يفكر إنسان بتفجير نفسه لقتل الأبرياء باسم الدين والجنة؟
لذا من الضروري توعية الناس وتحريك أفكارهم وتفعيل عقولهم عبر تجديد الخطاب الديني واعتماده على التحليل والنقد والنقاش، وهذا ما كان ينقص بيان الدعاة والمشايخ للأسف الشديد!