فوزية البكر - الجزيرة
الآن وبعد كل هذه الصراعات والتفجيرات التي وصلت إلى حيث نصلي خمس مرات في اليوم اتضح لنا أننا لم نتعلم كيف نعيش مع بعضنا البعض بسلام. ومع علمي بأن هناك مكونات أيدلوجية وسياسية للمشهد عامة إلا أني لا أرغب في الحديث عنها اليوم.
أنا أؤمن بشدة بأهمية المكونات الداخلية للمؤسسات الرئيسية الموجودة في حياتنا، وهي تحديدا ثلاثة: الأسرة والمدرسة والمسجد، ولو وجدوا بالشكل الذي كنا نتمنى لهم ان يكونوه لما ظهر هؤلاء الإرهابيون الصغار الذين أعتقد أن كل واحد فيهم كان ضحية نظامنا الذي لم يسمح له ان يكون إنساناً أولاًً وقبل كل شيء، فآثر التحول إلى وحش قاتل ليتمكن من الهرب من واقع مهلهل محلياً وعربياً وإسلامياً.
لنحاول الآن فهم بعض مشكلات هذه المؤسسات الثلاث.
الأسرة باعتبارها الوحدة الأولى التي يظهر فيها الطفل لا تعطي مفاهيم السلام والتعايش وتقبل الاختلاف أهمية تذكر باعتباره شيئاً ثانوياً وتفترض ان الطفل سيتعلمه من خلال تفاعلاته اليومية. (هل يفعل ذلك حقا؟ أم أن الطفل يصارع مشاعر الغيرة أو التهديد أو الخجل أو الخوف أو الرغبة دون أن يكون قادراً على التحدث بحرية لأمه وأبيه؟).
المدرسة باعتبارها المؤسسة التربوية الثانية في حياة الطفل لم تول بناء الذات وتقبل الآخر وتعود الاختلاف ومهارات حل المشكلات أهمية تذكر، ولذا لا توجد أية مقررات لا في التعليم العام ولا الجامعي تركز على بناء هذه المهارات.
في المقابل نجد مجتمعات أخرى نالت حظها الوفير من المدنية والاستقرار، لكنها تعتبر تدريس كيفية التفاعل وحل المنازعات بسلام من اول أولوياتها. وها هي جامعة عريقة مثل هارفرد والتي توجد في بلد لا يعاني من الفوضى القيمية التي تعم الشرق الأوسط لكنها تفرض على طلابها مواد مثل مقرر: (النمو الاجتماعي وتطبيقاته داخل المؤسسة التربوية) والغرض منه هو تربية القيم والاتجاهات التي تعلم الطلاب كيف يتواصلون بين بعضهم ومع الكبار من حولهم باحترام واهتمام في عالم اليوم الذي يحفل بكل التنوعات البشرية والعرقية والدينية. (يمكن العودة إلى بعض نماذج هذه المقررات عبر هذا الرابط:
https://www.gse.harvard.edu/course/spring-2015/h370-social-development-applications-education-ethics-and-media-entertainment
ثقافة قبول الآخر لا تأتي جزافاً أو أننا نفترض أنه وبما أننا مسلمون فإننا داعون للسلم وحفظ النفس، وهذا من الناحية النظرية صحيح لكن من الواضح ان التفسيرات البشرية لكثير من تعاليم ديننا الحنيف قد ولدت ليس فقط افرادا بل جماعات متطرفة مثل طالبان و بكو حرام والنصرة و داعش الخ.
هذا يعني إذن ان علينا ان نراجع وظائف المؤسسات الأكثر تأثيراً في حياة أجيالنا وهي على التوالي الأسرة والمدرسة والمسجد.
كيف نساعد الأسرة على فهم هذا الدور وكيف ندربها عليه؟ بإعطاء مساحة كافية لمنظمات المجتمع المدني وجمعياته العامة الأهلية والحكومية لتقدم للأمهات والآباء والأطفال أهم مفاهيم التعايش السلمي وطرق حل النزاعات وغيره كثير .
بالنسبة للمدرسة فالأدبيات الموجودة في هذا المجال أكثر من أن تحصر ويكفي ان هناك مؤتمرات سنوية اعرف عنها تقام في بعض الجامعات الأمريكية حيث يتم تدريب مدارس الحي كاملة على طرق حل النزاعات وكيفية تفاعل الطلاب مع بعضهم البعض وكيف يتعامل الانسان مع نوبات غضبه، إلى آخر المفاهيم التي لا نتطرق لها أبداً لا في البيت ولا المدرسة باعتبارها إما ان يولد الطفل بها (فهو حليو وهادي وعاقل) أو أن يكون طبعه ( حار وعصبي الله يهديه )، ويكبر هذان النموذجان مع غيرها من نماذج طبائع البشر الهادئة أو الحادة ولا أحد منا قد تم تدريبه على التعامل مع هذه الاختلافات ناهيك عن قبولها.
في المدرسة يجب ان تكون مفاهيم التعايش السلمي وحل النزاعات والقبول بفكرة التعددية الثقافية أفكاراً أساسية تضمن ضمن كل المواد وخاصة التربية الوطنية وكذلك كافة قطع القراءة والأنشطة اللاصفية المختلفة، مع طرح مقررات الزامية في الجامعة يكون الهدف منها زرع مفاهيم التعايش والسلام التي ستحمي كوكب الأرض من حماقة سكانه.
وحتى يتضح كيف أننا نعيش في حياتنا ضمن أطر ضيقة إقصائية فسأطرح عليكم سؤالاً بسيطاً: كم واحد منكم لديه صديق أسمر أو شديد السواد أو كما يطلق عليهم إخواننا السودانيون: خضر)، أو شيعي (إذا كان سنياً) والعكس صحيح أو من بيئة غير بيئته او من بلد غير بلده او من طبقة غير طبقته.. إلخ؟. هل تعرفون أن واحداً من كل ثلاثة أشخاص موجودون في المملكة هم من غير السعوديين، إلا أننا نادرا ما نسمع او نجد اية تفاعلات اجتماعية بيننا كسعوديين وبين الأقليات التي تعيش بيننا من هندية وبنغالية وصينية وعربية.. إلخ، أو مع عائلاتهم، وهو ما يحرمنا (ويحرمهم أيضا) من فرص تفاعلات ثقافية وحضارية وفنية كان يمكن أن تثري السعودية وتجعلها ثقافيا وفنيا محط انظار العالم.
إنني فعلا أتحسر على أيام أعتبرها جميلة بما وجد فيها آنذاك ولم نكن نثمنه فقد درست في مدارس حكومية طوال عمري، وكانت بجانبي الزميلة المصرية والفلسطينية والجاوية والسنية والشيعية وبنات الشرقية وبنات المدينة ومكة، ولم نكن نشعر أن أياً من هذه التنوعات تحمل اية أفضلية لأن الكل يدرسون في ذات المدرسة وعلى ذات المقعد.
اليوم يدرس ابني في مدرسة خاصة ولا يوجد حوله الا السعوديون من قاطني الحي ومن ينتمون لذات الطبقة الاجتماعية، أي حرمان يا سعود يا بني الحبيب!.
بالنسبة لغير السعوديين فاليوم أصبح لكل مدرسته، فأبناء الجاليات الغنية لها مدارسها الراقية( الأمريكية والبريطانية والفرنسية واليابانية وقليل من الدول الأوروبية) أما أبناء الدول الفقيرة فلهم أيضا مدارسهم التي لا يلتحق بها احد غيرهم، كما تم تجميع أغلب الجاليات العربية طلابا وطالبات في أحياء محددة تشهد كثافة سكانية منهم في ما إذا رغبوا الالتحاق بالمدارس الحكومية، بحيث حرم الطلاب السعوديون من الإحساس بأن أحداً غيرهم موجود أصلاً! (ناهيك عن التعاطف معهم) والأدهى ان (هؤلاء الغرباء) حين يتخرجون من الثانوية لا يتاح لهم الالتحاق بالجامعات السعودية كما كان الأمر يوم درست الجامعة، فأي خسارة يعيشها (ولا يدركها) طلابنا الجامعيون الذين لم يعرفوا ثروة التنوع وفن معايشته.
السؤال: كيف وصلنا إلى هذا المربع الخانق؟ من سمح لهم بأن يفقدونا أية فرصة للتفاعلات خارج الأطر المحلية الضيقة؟. من سمح لهم بتدمير عالمنا المحلي والعربي بما أتاح الفرصة لتفريخ الإرهابيين الصغار بيننا؟ أمهات الإرهابيين وأمهات الضحايا على السواء يصرخن في وجوهنا بأسئلة يجب ان تواجهها أمة بأكملها قبل أن يجرفها تيار العنف والإقصائية.