خالد الحروب- الشرق القطرية-
ليس هناك جذر أو ظرف واحد يمكن الإحالة عليه حصريا في تفسير وتفاقم ظاهرة التطرف. فالتطرف تفاقم كسيرورة تخلقت في رحم جذور وظروف عميقة ومركبة ما كان لها أن تنتج غير التطرف، ولو أنتجت غيره لكان ذلك هو الغريب حقاً. في موازنة ما بين الخارجي والداخلي من العوامل والظروف، ليس ثمة بريء، فالكل أسهم وبمزيج من الغباء والحماس في إنتاج هذا الوحش البشع: التدخلات الخارجية العسكرية وغير العسكرية، الحكومات الفاشلة، السياسات القمعية وغياب الحرية، الاقتصادات المهترئة، الإحساس العميق بالإذلال والهزيمة واللامعنى، الفكر الخلاصي القائم على مانوية الأسود والأبيض، تسيد التفسيرات الدينية الأكثر تشددا وتعصبا، و... التعليم! ولهذا الأخير، أي التعليم (والديني تحديداً) نصيب مُعتبر في إيجاد المناخات القابلة والمولدة للتطرف. لكن من المهم موضع النقاش هنا حول دور ونصيب التعليم المُعتمد في معظم مناهج التدريس العربية الحكومية، ضمن سياق مجموعة عوامل أعم وأكثر تعقيدا. وهذا يُقصد منه رفض حصر المسألة كلها بالتعليم، برغم أهميته الكبيرة، وحتى لا تُفهم السطور التالية وكأنها تتغاضى عن كل العوامل الأخرى.
انطلاقا من ذلك التقديم، تجادل هذه السطور بأن جزءًا ليس باليسير من ثقافة التعصب والتطرف التي تتبناها منظمات التطرف وعلى قمتها داعش هو مُدرس نظريا لطلابنا بشكل أو بآخر. قد يتم ذلك بشكل أقل بشاعة طبعا وبطريق أقل خشونة، لكنها تؤسس الممارسات المختلفة ضد الآخر تبدأ بالتعالي الشعوري عليهم واحتقارهم وتصل في أقصى صورها إلى ممارسة العنف ضدهم. أي ثقافة تقوم على إعلاء الذات فوق الآخرين عوض أن ترسي قواعد مساواة تامة معهم، على أساس المواطنة والهوية الوطنية الحديثة المشتركة، وقائمة على التنوع الذي يحترم الاختلاف ولا يرى سوى التعايش إطارا للحياة البشرية هي ثقافة متطرفة وإقصائية ومآلاتها داعشية.
تتأسس معظم المساقات الدينية التي تُدرس للتلاميذ في معظم الدول العربية، إن لم يكن كلها، على منهج التلقين والتلقي واستدعاء الثقافة والآراء الدينية التي كانت سائدة في قرون ماضية، ويتم اعتماد المفسرين والتفسيرات التي أنتجت في تلك القرون، وربما كانت تناسب الظرف والزمان آنذاك، وتطبيقها في الزمن الراهن. ومع أنه ليس من الإبداع ولا اجتراح المُعجز القول بأن ما ناسب زمانا ومكانا ما لا يناسب كل زمان ومكان إلا أننا ومع كل الأسى لا نجد هذه البديهية التي لا تحتاج إلى نقاش مُطبقة في جوهر التعليم الديني. لذلك فإنه من "الطبيعي" أن نرى ونسمع تطبيقات لفتاوى الرق والرقيق، على سبيل المثال، في أيامنا هذه لأن هذه الفتاوى وما يرافقها من مسائل مُستلة من التاريخ السحيق، وتُدرس في كل المناهج الدينية. ونرى ونسمع من يبرر أو على الأقل "يتفهم" ممارسات داعش في بيع وشراء النساء والأطفال باعتبارهم سبايا حرب. ومن "الطبيعي" أن نقرأ ونسمع لمفت هنا أو هناك يتحدث عن ضرورة غزو المسلمين لأراضي وبلاد غير المسلمين، لأن الغزو والغنائم هي التي تحل مشكلات الاقتصاد والفقر التي تواجه المسلمين. كيف لا وهذه المسائل و"أحكامها" تدرس كجزء من المنهج الديني وعندما يسيطر التخلف الفكري والتطرف على أفراد أو مجموعات فإن التطبيق الطبيعي لما تتم دراسته نظرياً يكون هو في النهاية ما نشهده جميعاً ويصدم وعينا الجمعي.
إصلاح التعليم الديني أصبح مشروعا ملحا يحتاجه العالم العربي اليوم قبل الغد، وفي الواقع تأخرنا فيه كثيرا إلى أن أنتج ما أنتج. والإصلاح التعليمي والديني المطلوب ليس مجرد إضفاء رتوش تجميلية هنا وهناك، أو التمسح بقيم "التسامح والتعايش" لفظيا ونثرها في مقالة في كتاب، أو قصيدة في مساق. الإصلاح التعليمي المطلوب يجب أن يكون ثورة حقيقية تقوم أساسا على نفض النظام التعليمي كله وإعادة تأسيسه على قاعدة المواطنة والمساواة والدولة المدنية، وبعيدا عن الشرعيات الدينية التي تستخدمها النظم الحاكمة، أو المنظمات المتطرفة المعارضة لها. وعندما يتم إعلاء قيم المواطنة والمساواة المدنية على حساب كل القيم المُعرفة والمفرقة الأخرى بما فيها القيم الدينية، سوف تنتج أجيالا لا ترى في أفراد الوطن سوى مواطنين كاملي الأهلية يتنافسون بحسب الكفاءة والقدرة، وفي ميدان الحقوق والواجبات التي يكفلها وينظمها الدستور. من دون أن يتحقق ذلك فإن ميدان التفسير الديني يظل مفتوحاً لكل من هب ودبَّ كي يضع معايير الولاء والانتماء، فيدخل هذا ويخرج ذاك من دوائر الولاء التي يرسمها. وهي تفسيرات يكون التأسيس لها قد تم في مناهج التعليم التي تصنف الناس وفق معايير لا علاقة لها بالمواطنة والمساواة.
على ذلك وعملياً، فإن ما تقوم به منظمات التطرف والدوعشة هو التفعيل العميلي والميداني لما هو مُنظر له أصلا في التربية الطويلة والمعمقة التي يتلقاها الطالب على مقاعد الدرس. فالمناهج العقيمة والجامدة والتي تنطوي على ثقافة إقصائية كامنة تعمل على تجهيز الأفراد وتحضيرهم لأي مشروعات تطرف مستقبلية. فإذا ما اشتغلت بقية عوامل تسعير التطرف التي أشير إلى عناوينها العامة في مقدمة هذه السطور، فإن وحدات الاشتعال تكون جاهزة ولا تحتاج إلا إلى شرارات الإيقاد.
تحتاج مناهج التعليم العربية إلى ثورة حقيقية تقيم الاعتبار للعقل ولدراسات النقد والفلسفة وعلوم الاجتماع والأنسنة وعلم النفس والفنون، إضافة إلى العلوم التطبيقية والتقنية، ومنطلقة نحو المستقبل.
وهذا يجب أن يكون ذلك على حساب مناهج التلقين والتحفيظ والإيغال في الماضي والتراث وحبس عقول التلاميذ والأجيال الشابة في معلقات التغني بأمجاد الماضي. من دون أن يكون هناك مسار عريض منشغل بتطوير التعليم وتحريره من السيطرة الدينية الجامدة والمغلقة، فإن كل جهود مكافحة التطرف وصده في المنطقة العربية لن تحقق أي نجاح طويل المدى.