الرياض السعودية-
لا بشع من تلك الجرائم المرتكبة بحق الأطفال الأبرياء، غير أن واحدة منهن تفوق وبجدارة متناهية سلم تلك الجرائم ببشاعة تفاصيلها ووحشية مرتكبيها، جريمة تقشعر لها الأبدان، حينما لا يدرك ضحاياها الصغار ماذا ينتظرهم في رحلة للمجهول ولا شيء أمامهم سواء أيادي آثمة تحملهم ووجوه متنكرة ترعبهم، «إنها جريمة خطف الأطفال» تلك الجريمة التي لا يحتاج فيها الجاني إلا بضع دقائق معدودة ليصافح جريمته بدم بارد وقلب ميت فأي ألم وأي صراع نفسي يمكن لضحية أن تعيشه وكيف يمكن أن يطيق الأهل الصبر والسلوان وفي صدورهم لجلجة مشاعر وخواطر تلهب الجمر، وفي مجتمع لم يعتد أن يعكر أمنه بمثل تلك الحوادث المفجعة إلا أنها تطل علينا بين الوقت والآخر لتنكئ جراحاً عدة وتثير الأسئلة وتفتح أبواب التأويلات التي تضج بها مجالسنا وهواتفنا ولا شيء يمكن أن نقولهُ أو نفعلهُ حينها غير الدعاء بالفرج العاجل.
«الرياض» تناقش في هذا التحقيق واقع جريمة اختطاف الأطفال والتي لا تصل لحد الظاهرة، والجوانب المرتبطة بحيثيات هذه القضايا، على رغم أن بعض حالات الاختطاف ماهي إلا نتيجة إهمال أو تغيب وهروب من تعنيف.
نظرية الفرصة
بداية أوضح د. صالح العقيل -أستاذ علم الجريمة والانحراف المشارك بجامعة المجمعة- أن اختطاف الأطفال -ولله الحمد- لا تعد ظاهرة منتشرة، ولكن هناك حالات يجب أن نقف عندها ونناقش تفاصيلها، وهناك حالات تسجل في أقسام الشرط كضياع أو اختفاء وتغيب، لاسيما أن العوامل التي تساهم بالضياع والهروب باتت متعددة ومن أهمها: وجود المجمعات التجارية الكبيرة، والمراكز الترفيهية التي سرعان ما يختفي فيها الطفل عن أنظار والديه في لحظات غفلة أو إهمال منهما، أيضاً ساهمت حالات التعنيف الأسري في أن يهرب الطفل من مُعنفه، وقد يتوارى عن الأنظار، وقد تُفسر غالباً من المحيطين بالطفل ووسائل التواصل الاجتماعي على أنها حالة اختطاف.
ونفى د. العقيل وجود عصابات منظمة تقوم بجرائم الاختطاف كما يحدث في مجتمعات أخرى تعاني من تخلف عقدي واجتماعي، ويكون اختطاف الطفل لهم فرصة لارتكاب جرائم عدة، مرجعاً الأسباب التي غيبت وجود هذه العصابات في مجتمعنا إلى ارتفاع الوازع الديني عند المجتمع السعودي، إذ إن المجتمع المتدين يخلق التزاماً مانعاً للقيام بأي من المحظورات المنهي عنها في الشريعة، كما أن ما يُمارس ضد الطفل في حال خطفه من ابتزاز لأسرته أو بيع لأعضائه هو ما لا نصل إليه في مجتمعنا، موضحاً أن أهداف خطف الأطفال لدينا في مجملها نتيجة جرائم أخلاقية، وفي بعض الحالات تكون بهدف استغلال الأطفال في امتهان التسول.
وأضاف، إن تطبيق الحدود الشرعية وصرامة القانون حال دون وجود تلك العصابات، كما أن ما نحظى به من قيادة أبوية كفيلة بحماية المجتمع من ارتكاب هذه الجرائم، إضافة إلى وجود الأجهزة الأمنية ذات الكفاءة والقدرات العالية التي حطمت آمال تلك العصابات، فكما نرى سرعة تتبع الجناة والقبض عليهم في أي جريمة تهز أمن المجتمع وتروع الناس.
حالات فردية
من جهته يؤكد د. أحمد عسيري -باحث في علم الجريمة- على محدودية تلك الجريمة في المجتمع السعودي إذ لا تتعدى بضع حالات فردية، يتم تصعيدها للأسف من قبل محبي الإثارة عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، وهؤلاء وبافتراض حسن النية يحتاجون إلى إرشاد وتثقيف بخطورة ذلك، وردعهم في حال التمادي، إلا أنه يجب وضع احتمال لآخرين ربما لهم مقاصد باستهداف الأمن وإشاعة الفوضى، والتشكيك في القدرات الأمنية. ويرى أن ما تختص به جرائم خطف الأطفال بأنها الأكثر فظاعة من أي انتهاك آخر؛ وذلك لارتباطها بضحايا مغلوبين على أمرهم، ولا يعون حجم الخطر الذي يحيط بهم، أيضاً مجهولية المصير، وأيضاً الغرض النهائي من الجرم، كما تختص هذه الجرائم ببراعة ودهاء المجرمين وتنظيماتهم المتطورة، والقادرة على اختراق الخصوصيات وبعض إجراءات المكافحة والضبط وبكافة الوسائل غير المشروعة، إضافة إلى ارتباط هذه الجريمة ببعض الجرائم، إذ إن إجراء وإتمام عملية الخطف ليس هو المقصود بذاته كغرض نهائي، بل هو مقدمة لانتهاكات عديدة تتمخض عن جرائم ذات صلة وثيقة وارتباط كبير ولما هو خارج التوقع، إذ إن عملية الخطف قد تتحول من طلب للفدية إلى القتل في حال عدم الإذعان للمطالب المالية، أو أحياناً وفي حال عدم جدوى توظيف المخطوف في التسول الممنهج، تتحول الجريمة إلى ما هو أبشع وهو الشروع في المتاجرة بأعضائه، أو الاستغلال في أعمال مخالفة للقانون.
آثار نفسية وجسدية
ووصف د. ناصر العريفي -الباحث في علم النفس الجنائي- الآثار النفسية لعملية الخطف بأنها آثار صادمة ومدمرة على كل من الطفل والوالدين؛ فأما بالنسبة للوالدين على التحديد فإنهما يتأثران نفسياً وجسدياً حيث يشعران بالضياع والوحدة والاكتئاب وبعدم القدرة على النوم، مما يضطر الأمر إلى تقديم الدعم النفسي والاجتماعي والطبي لهما، والأمر الذي يزيد من خوفهما على باقي أفراد الأسرة، والتفكير المستمر في حالة طفلهما المخطوف، وهذا يزيدهما قلقاً وتوتراً باستمرار، وقد يلجأ كل منهما إلى البعد عن المناسبات الأسرية حيث تعتريهما درجات عالية من الحزن الشديد والقلق المرضي والتوتر المستمر والخوف والهلع وعدم الاطمئنان على باقي أفراد الأسرة.
وأما بالنسبة للطفل المخطوف في حال العثور عليه وإعادته لأسرته فإنه يعاني من تأثيرات نفسية وجسدية تدوم لفترة منها قصيرة المدى ومنها بعيدة المدى، فالطفل المخطوف بعد عودته يتأثر بآثار نفسية قوية منها اضطرابات النوم والخوف المستمر من الخطف مرة أخرى بالإضافة إلى العديد من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PSTD)، وقد تستمر أعراض المعاناة النفسية للطفل لفترة زمنية تصل إلى (5) سنوات، تظهر عليه سلوكيات تنم عن خوف وهلع واضطرابات النوم وقضم الأظافر بشكل مستمر والتبول اللا إرادي، وتسيطر عليه نوبات الغضب في كثير من الأحيان. وأما على الصعيد الاجتماعي فإنه ينعزل عن الآخرين ويصاب بفوبيا اجتماعية وتضعف عنده القدرات التحصيلية في المدرسة، مما يؤثر ذلك على مستواه التعليمي ومستقبله، وإذا كان المخطوف أنثى فإنها تتأثر أكثر بحكم طبيعتها الأنثوية فيترك ذلك أثراً واضحاً عليهاً.
الشخصية الإجرامية السيكوباثية
وأوضح د. ناصر التفسير النفسي للجانحين المنخرطين بمثل هذه الجرائم وذلك بحسب التصنيف المعروف للخاطفين، مشيراً إلى أن الاختطاف من قبل أحد أفراد الأسرة فإنه يفسر غالباً في انتزاع حضانة طفل دون وجه حق يقوم بها أحد أقربائه (عادة الوالدين) دون توافق بين الوالدين وبما يتنافى مع أحكام قانون الأسرة، يترك أثراً نفسياً سيئاً عند الطرف المحروم من الرعاية؛ مما يشعل عنده جوانب عدوانية تجاه الغير، ويتحول إلى شخصية انتقامية ترغب باستمرار في إلحاق الأذى بالآخرين، لأنه يرى أنهم يستقون ذلك بسبب حرمانه من الرعاية، وقد ينعكس هذا السلوك أحياناً على عمله أو على الآخرين المقربين منه، فتجده ذا شخصية حادة ومتصلبة وبعيدة كل البعد عن الشفقة والعاطفة. وأما بالنسبة للنوع الثاني والذي يقوم به مجموعة من الغرباء ولأغراض إجرامية فقد تتمحور أهدافهم الإجرامية بهدف الابتزاز للحصول على فدية. فإن هذا النوع من البشر يفكر فقط بالحصول على المال ولا يهمه إلحاق الضرر بالطفل المخطوف، وهدفه الوحيد إشباع رغباته الجامحة وغير الإنسانية على حساب الغير، فلا شك بأن هذه الشخصية هي شخصية إجرامية سيكوباثية. وإذا كان الخاطف هدفه التبني غير القانوني من خلال سرقة طفل لتربيته فإنه لا يفكر إلا بنفسه، فقد تغلب عليه درجة الأنانية المفرطة وعدم الشعور بالآخرين مع التبلد العاطفي والنزعة العدوانية ضد الغير. وهدف الاتجار بالبشر من أجل استغلال الطفل بأي صورة من الصور البشعة والإجرامية فإن هذا النوع من العاملين على هذه المنظمات الإجرامية متجردون من جميع المشاعر الإنسانية بل هم أشد قسوة من بعض الحيوانات المفترسة التي تبحث فقط عن إشباع غرائزها على حساب الغير.
زرع المفاهيم السليمة لدى الأطفال
وتحدث العميد المتقاعد طلال الصيدلاني -مستشار أمني وعضو مؤسس لجمعية طفولة آمنة- عن أهمية الجانب الوقائي للحد من الجرائم، مؤكداً على أهمية أن تزرع العديد من المفاهيم السليمة لدى الأطفال لحمايتهم من الوقوع في براثن من يسحقون الطفولة، مضيفاً أن من المهم أن نعلم أطفالنا أهمية اللجوء إلى الشخص المناسب في حال تعرضه لأي سوء، وأن نوجد لدى أطفالنا أهمية رجل الأمن الذي سيحميه بإذن الله وعليه فوراً الاتجاه إليه وطلب مساعدته.
وعن أهمية البرامج التوعوية لحماية الطفولة أكد الجهني أن هناك العديد من البرامج الموجهه للطفل أو للأهل في مجال الحماية عن طريق الجمعيات وبعض الجهات الحكومية والخاصة، ولكنها للأسف غير كافية، وما هو موجود من ندوات ومحاضرات ودورات تهتم بحماية الأطفال موجهة للمختصين في مجال الحماية وليس للأهل مباشرة، إضافة إلى قصور نوعية البرامج الموجهة للطفل في طرق حماية نفسه من الإيذاء والتعرف على مفهوم الإيذاء الذي يتعرض له، وعدم التجاوب مع الغرباء في أي مكان مهما كانت المغريات التي يقدمونها له.
جريمة مركبة
وأوضح د. عبدالعزيز الشبرمي أن جريمة الخطف جريمة مركبة من عدة أوصاف جرمية تختلف فيها العقوبة تبعاً للأوصاف الجرمية المرتكبة، والهدف من جريمة الخطف، وبالتالي تختلف جريمة الخطف للانتقام من أسرة الطفل، وهي جريمة كبيرة عن جريمة الخطف للاعتداء الجنسي، أو سرقة الأعضاء، كما تختلف جريمة الخطف من حيث سلامة الطفل وهلاكه، وعلى كل حال فجريمة الخطف التي تتضمن اعتداء جنسياً تصنف بأنها حرابة، وأخطر منها قصد سرقة الأعضاء، أو قتل الطفل المخطوف، والتي تصنف بأنها جريمة حرابة وقتل، يستوجب القتل حداً، ولا ينظر فيه لعفو أصحاب الدم لكونها جريمة على الدين والدولة والمجتمع، فضلاً عن كونها اعتداء على نفس معصومة، مؤكداً أن العقوبات القضائية لها الأثر الكبير في محاصرة هذه الجرائم البشعة والمخيفة للمجتمع كافة، وبالتالي يجب الأخذ بيد من حديد، وأن يظهر سلطان الدولة وهيبة القضاء في مواجهة مثل هذه الجرائم التي تخيف الناس وتثير الرعب، مشدداً على أهمية التحرك السريع لذوي الطفل المفقود بالتبليغ فوراً عن حالة الفقدان، بشرط تزويد الجهة المختصة بكافة تفاصيل وملابسات وظروف حالة الفقد، وذلك تفادياً للخلط بين وجود جريمة الاختطاف وبين هروب الطفل من أسرته، أو قيام أحد الوالدين المنفصلين بأخذ الطفل بالقوة، كما يجب على كل شخص مهما كان أن يستعمل المصطلح المناسب لكل حادثة، فضياع الأطفال في الأماكن العامة قد يكون ضياعاً طبيعياً، وقد يكون نتيجة اختطاف، وهذا له الأثر السلبي على الطفل وذويه حاضراً ومستقبلاً، وبالتالي لا يصح الحكم بتعرض الطفل المفقود لاسيما الفتيات الصغيرات للخطف إلا عند ثبوت الحالة، وأن يكون ذلك أمام الجهة المختصة فقط، وألا يستعان بوسائل التواصل الاجتماعي إلا بشروط، وهي موافقة ذوي الطفل، وأن يكون بطلب البحث عن حالة الفقدان دون الجزم بواقعة الاختطاف، وأن لا يتم التصريح باسم أسرته بل باسمه الأول ومواصفاته، وذلك احتراماً لشعور وسمعة الطفل محل الفقدان أو الاختطاف واستشعاراً لمستقبله.
مستشار أمني وعضو جمعية «طفولة آمنة» يطالب بتكثيف كاميرات المراقبة
أكد العميد المتقاعد طلال الصيدلاني -مستشار أمني وعضو مؤسس لجمعية طفولة آمنة- أن تصعيد مثل تلك القضايا في مواقع التواصل الاجتماعي ينعكس سلباً على نفسية الطفل على المدى الطويل، وقال: للأسف الكثير من وسائل الإعلام تتناول القضية بشكل يسيء للطرفين بل وأيضاً في كثير من الأحيان يصعب على الجهات الأمنية متابعة عملها ويكشف للمختطف ما يقوم به ذوو المخطوف والجهات الأمنية من تحركات مما يجعله يأخذ حذره في تحركاته، ولا بأس باستعراض القضية بعد انتهائها للتوعية والتثقيف دون الإشارة إلى أسماء الضحايا أو الجاني. وطالب في هذا الصدد بالاستعانة بالسوار الإلكتروني والتشديد على وضع كاميرات المراقبة الدقيقة والحديثة في المراكز التجارية والترفيهية وأن تكون تغطيتها كاملة للداخل والخارج، موضحاً: أنه وبكل تأكيد سيكون ذلك مفيداً للجهات الأمنية بعد توفيق الله في سرعة القبض على كل من تسول له نفسه المساس ببراءة أطفالنا.
«الخطف العائلي» يشكل 49 %
أوضح د. ناصر العريفي -الباحث في علم النفس الجنائي-: إن نسبة انتشار خطف الأطفال وفق دراسة أميركية ضئيلة ضمن نطاق الجرائم المرتبطة بالعنف ضد الأطفال والأحداث، فهي تشكل نسبة أقل من ( 2 % ) ويحتل الخطف العائلي نسبة ( 49 % ) من حالات خطف الأطفال فيما تكون نسبة الخطف من قبل المعارف ( 27 % ) وكذلك خطف الغرباء نسبته ( 27 % ) وغالباً خطف الغرباء يستهدف الإناث بنسبة ( 64 % )، وغالباً ما يكون المعتدي ( الخاطف ) ذكراً بنسبة ( 95 % )، وذلك بحسب دراسة أميركية ويُلاحظ بأن عملية خطف واحدة من أصل خمسة عمليات خطف يتم فيها القيام بجرائم عنف مثل الاعتداء الجنسي إذا كانت المخطوفة فتاة، أو من خلال السرقة إذا كان المخطوف ولداً، وغالباً ما يتم استخدام السلاح الناري في مثل هذه الحالات.
مختص في علم الجريمة: مشاهد الإهمال «مؤلمة» وتعزز «نظرية الفرصة» لدى المجرمين !
لم يستبعد د. صالح العقيل -أستاذ علم الجريمة والانحراف المشارك جامعة المجمعة- أنه في بعض الحالات قد يكون الاختطاف ناتج عن إهمال وغفلة من الأسر خاصة من تعتمد على أطفالها الصغار وتحديداً "الأناث " في احضار بعض المستلزمات من المحال التجارية التي لا تخلو من بعض ضعاف النفوس، مؤكداً: أن هناك مشاهد مؤلمة في المجمعات التجارية إذ تتفرق الأسرة في المجمع التجاري، وقد يعتقد أحدهما أن الأطفال بصحبة الآخر، ومن هنا يجب أن تتنبه الأسر لأطفالها وتتحمل مسؤوليتهما فلا تنشغل عنهم أو تشغل الجهات الأمنية بالبحث عنهم، بل نتمنى أن تعاقب الأسر التي يثبت إهمالها كونها تساهم فيما يسمى بعلم الجريمة "نظرية الفرصة " وهي التي لا تحتاج لتخطيط مسبق وذلك لوجود النزعة الإجرامية والانحراف عند الجاني ومتى ما حانت الفرصة يمارس جريمته ومن هؤلاء الجناة المرضى النفسيين أو المختلين عقلياً.