يوسف بن عبد العزيز أبا الخيل- الرياض السعودية-
العالم العربي والإسلامي مسكون بالهواجس المخيفة جراء تداعي أكلة الطائفية على قصعتها، وما جرته وتجره معها من فوضى وتدمير، وقتل، وقتل مضاد لم يستثن حتى الركع السجود في المساجد، وانتحاريين يتهافتون على الموت وسط المجاميع الكبيرة من الأبرياء تهافت الفراشات على النار، وراجفة تتبعها الرادفة، تدعُّنا إلى نار جهنم دعًّا.
لعلنا ونحن إذ نكرر هذا الكلام، ونبدي ونعيد فيه، أن نتفاءل خيرا في أن نجد قبسا من نور يهدينا في ظلمة الليل البهيم إلى بر أمان نحن في أمس الحاجة إليه بعد أن يئسنا من أن نرسو على اليابسة
ومع كل هذه الأهوال، فإن ثمة ضوءا في آخر النفق يبشر بفلسفة تقول إن تجاوز هذه العذابات مرهون بالمرور بها. بمعنى أن العالم العربي والإسلامي لن يتمكن من تجاوز محنه وأزماته مع الطائفية والتعصب الديني والمذهبي ما لم يكتو بنارها، ويتجرع مراراتها، ويشهد مآسيها وبؤسها الشديد، ويعايش كيف يكون الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان عندما ينغمس ذهنيا في التعصب، ويخيل له أن الحرية، وخاصة منها الحرية الدينية بكافة أشكالها، إنما هي محض افتراء على حقيقته هو، والتي يمتلكها خالصة من دون الملل والنحل جميعها.
إن استقراء التاريخ، القديم منه والحديث، ليشهد بالصحة لهذا الاستنتاج. ثمة أمم كثيرة لم تستطع أن تتجاوز أزماتها إلا بعد أن اشتبكت معها، ورأتها رؤيا العين، ثم خاضتها على المكشوف، ثم تجاوزتها في النهاية، على طريقة (لا بد للشهد من إبر النحل).
ولربما يكون الفيلسوف المثالي (هيغل) هو أول من صاغ هذه الفلسفة للتاريخ وفق نظرية محكمة متكاملة قوامها أن العقل إذ يحكم العالم الإنساني فهو يتجسد في التاريخ الذي يسير نحو هدف عقلاني كوني هو (الروح المطلق، أو الوعي بالذات، أو الحرية)، وكلها أسماء لمسمى واحد عنده.
إن التاريخ الحقيقي وفقا لهيغل، كما يقول مجدي كامل في كتابه (هيغل آخر الفلاسفة العظام)، هو "ذلك التاريخ الذي يهيمن على الوقائع الجزئية ويصوغها ضمن منطقه الداخلي، من خلال تفاعل الشخصيات التاريخية نفسها مع المقصد الخفي الذي يبلوره المنطق الباطني للتاريخ. حيث يقوم التاريخ وفقا لهذه الفلسفة بتفسير الوقائع واستخراج القوانين والتنبؤات لما سيجري من غير التقيد بزمن معين يراد له أن يبسط قوانين وآلية جريان أحداثه على زمن آخر.
والسبب في ذلك أن العقل هو جوهر التاريخ".
ولكن المشكلة أن الهدف الكوني للعقل الكلي لا يأتي إلا عبر أكثر محطات التاريخ رعبا، وأكثرها تلبسا بالطغيان والموت والفواجع والاقتتال والدماء والدموع وإهلاك الحرث والنسل. وهذه المحطات المرعبة هي وحدها القادرة على إيقاظ الوعي الجمعي بخطورة الاتكاء على الايديولوجيات الشمولية التي تجعل الإنسان ذئبا لا يكف نهمه عن إيذاء أخيه الإنسان والولوغ في دمه، إلا عندما يقتنع بأنه غير قادر على فرض إيديولوجيته على أنقاض إيديولوجيات الآخرين، عندها فقط يقتنع أنه لا مناص من التعايش مع المختلفين بأديانهم ومذاهبهم.
يتساءل مجدي كامل في كتابه آنف الذكر، على خلفية حديثه عن فلسفة التاريخ الهيغلية فيقول: "هل التاريخ بأحداثه الخطيرة يعد شيئا عقلانيا نبيل الغرض، وهو مليء بالشر والظلم والقتل والحروب وسفك الدماء؟"
ثم يجيب: "لم ينكر هيغل وجود الشر عبر التاريخ، وهو الذي جاء بمصطلح (رعب التاريخ). وكان يقول إن التاريخ مذبح مقدس، تقيد فيه الضحايا من البشر وتقتل بدم بارد كقرابين".
ترى ماهو الغرض من كل هذه القرابين البشرية عبر التاريخ؟
يجيب هيغل: إننا لو تتبعنا حركة التاريخ العالمي سنجد أن التاريخ كائن حي له روح، وهذه الروح هي حرية الإنسان ووعيه بهذه الحرية. التاريخ يسير في اتجاه المزيد من الحرية للإنسان. أنظمة القهر والتبعية اختفت أو كادت، وتحررت معظم الشعوب من الاستعمار والتبعية أو كادت.
والسؤال هنا هو: كيف يفعل العقل الكلي المتجسد عبر التاريخ كل ذلك؟
يجيب هيغل: إن العقل الكلي يستخدم الناس كأدوات تنفيذية لتحقيق غرضه في السير نحو الروح المطلق أو نحو الوعي بالحرية، عبر وسائل العنف والبغي والطغيان المتأصلة في الإنسان بصفته ذئبا لأخيه الإنسان، كما هو وصف الفيلسوف الآخر (توماس هوبز)، وعبر إشباع تلك الأدوات التنفيذية لرغباتها وغرائزها، ومن ضمنها ما يتصل بفرض الآراء والمعتقدات على الآخرين.
وبتطبيق فلسفة التاريخ الهيغلية على حاضر أوروبا والغرب سنجد أن الغربيين لم يستطيعوا تجاوز محنتهم المذهبية إلا بعد أن اصطدموا بها وجها لوجه إبان الحروب الدينية بين جناحي المسيحية: الكاثوليك والبروتستانت، فسفكت الدماء أنهارا، وقطعت الأوصال وتفحمت الأجساد، وخلت مدن كاملة من سكانها. ولم يستكّن العنف المذهبي إلا بعد أن وصل الغربيون إلى قناعة مفادها أن أياً من الطائفتين لن تقضي على الأخرى، كما لن تجبرها على اعتناق مذهبها، وهو ما سيحصل في النهاية بين الشيعة والسنة اللذين يمران اليوم بنفس ظروف البروتستانت والكاثوليك في الأمس، حيث القتل، والقتل المضاد على الهوية، وحيث وصل رعب الاقتتال المذهبي بينهما إلى حد التفجير بالمصلين داخل المساجد!
العقل الكلي المتجسد عبر التاريخ سيُعَلِّم كلا من الشيعة والسنة في نهاية المطاف أنهما لن يقضيا على بعضهما، وأن أيا منهما لن يفرض مذهبه على الآخر، كما سيعلمهم أن العقائد، كما قال عالم الاجتماع العراقي: الدكتور علي الوردي: "ليست في يد الإنسان، وهو لا يستطيع أن يحصل عليها أو يتركها كما يريد. بل إنها قناعة (لا شعورية) تأتي نتيجة الإيمان القوي والمراس الطويل، والانغمار الذي لا يخامره شك"، أو كما رأى الجاحظ أن" آراء الإنسان وعقائده ليست إرادية، بل هي مفروضة عليه فرضا، وأنها نتيجة حتمية لكيفية تكوين عقله". فمن سيولد في بيئة شيعية سيصير شيعيا حتما، ومن سيولد في بيئة سنية سيصير سنيا حتما.
وسيضطر كل من الشيعة والسنة إلى أن يتعايشا في النهاية تحت ضغط العقل الكلي عبر التاريخ، ولكن لا بد قبل ذلك أن يدفعا الثمن من دمائهم وأمنهم وأرواحهم، كما دفعه أقرانهم في الغرب من قبلهم.
هذا هو حكم العقل الكلي المتجسد عبر التاريخ. وليس للطائفتين، كما ليس لغيرهما حيلة في استخدام التاريخ لهم كأدوات تنفيذية وهو في طريقه نحو بلوغ الروح الكلي أو الوعي بالحرية.
لعلنا ونحن إذ نكرر هذا الكلام، ونبدي ونعيد فيه، أن نتفاءل خيرا في أن نجد قبسا من نور يهدينا في ظلمة الليل البهيم إلى بر أمان نحن في أمس الحاجة إليه بعد أن يئسنا من أن نرسو على اليابسة! وحسبنا أننا على حد قول الشاعر:
ما أرانا نقول إلا معاراً
أو معاداً من قولنا مكرورا