بجوار مقعدي على طائرة (أبها - الدمام) ليلة الأربعاء الماضي شاءت الصدف أن تأخذني برفقة شاب أنيق على المقعد المجاور. وبطبعي، فأنا صاخب حد الإزعاج في الحياة اليومية العادية، لكنني على العكس تماما عندما أركب الطائرة: أعشق الهدوء وأعتبر مسافة الطيران سجنا اختياريا للخلوة مع كتاب. مقعد الطائرة على الدوام يعطيني، ولله الحمد، فرصة هائلة للتركيز، وأحيانا أقول لنفسي إنني أقرأ في الجو أضعاف ما تعطيه لي مساحة هذه الأرض. بادرني هذا الشاب، ونحن لا زلنا نربط هذه الأحزمة بالسؤال الذي سمعته عشرات المرات من قبل على مقعد الطائرة: هل أنت... ...؟ قلت له نعم، وقبل أن تقلع الطائرة من مدرج أبها كنا قد أنهينا الجلسة الافتتاحية لندوة حوار وطني فيها من الأسئلة والأجوبة ما كان أعمق مما يمكن أن تمنحه تلك الطاولات الخشبية المتجمدة لغطرسة الفرقاء والمذاهب على طاولات الحوار الوطني الرسمية.
هنا التمهيد لبطاقة التعريف: بجواري شاب صغير أكمل دراسته الجامعية في الهندسة الصناعية من أرقى الجامعات الأميركية، ويعمل اليوم في شركة استشارات إدارية عالمية ضمن فرعها بالمملكة، وهنا ذروة الحديث وهو يقول لي: أنا من مواليد بلدة (صفوى)، ثم يقع على أذنيه سؤالي التلقائي: هل أنت شيعي؟ أحسست بعقدة الذنب على بلادة السؤال، وشعرت بالخجل الشديد وهو يجيب: كنت أتوقع أن أتلقى مثل هذا السؤال من كل ركاب الطائرة الضخمة، ولكن ليس منك أنت بالتحديد. يواصل: هذا النوع من الأسئلة، يا عزيزي، هو مفتاح الفرز الطائفي والمناطقي والقبلي الذي ترفض كل أجوبته أن نكون وطنا واحدا متحدا لا مكان فيه إلا لبطاقة الهوية الوطنية، ثم الفرز بعدها على معيار الأهلية والكفاءة.
شاب بنصف عمري تقريبا، ثم يلقي على أذني هذه العبارات التي وصلت إلى أذني الوسطى مثل الرصاصة تلو الرصاصة وهو يقول: لن يقتلنا في هذا الوطن سوى أسئلة الفرز على حسب الهوية. يواصل... سؤالك أستاذي لا يختلف كثيرا عن بقية الأسئلة التالية التي نسمعها مع كل تعيين: هل أنت شمالي أم جنوبي؟ هل أنت من الأحساء أم من الحجاز؟ من القصيم أم من سدير؟ هل أنت من سكان أبها القدامى أم من المهاجرين إليها من أريافها للزحام على المناصب والوظائف الإدارية بهذه المدينة؟ نحن أضفنا معيار الكفاءة لأننا نغرق بين نهايات ذات السؤال والكلمة الأولى من نفس كل الأجوبة. وللصدفة، وهنا أختم: كنت أنوي قراءة كتاب (الهويات القاتلة) لأمين معلوف، ربما للمرة العاشرة. وعلى باب الطائرة أهديته نفس الكتاب فأهداه فورا لأقرب (ملاح) قبل أن يقول لي كلمة الوداع: لا توجد لديّ عقدة الهوية القاتلة: أنا سعودي حسمت عقدة الهوية.
علي سعد الموسى- الوطن السعودية-