يوجعني كثيرًا جسدنا العربي الممزَّق الأشلاء، الذي يتناحره الاحتراب، والاقتتال الداخلي، وتعيث الطائفيَّة المقيتة بأياديها العابثة فيه خرابًا ودمارًا، لتحيله لمسرح دامٍ من القتل المجاني، والموت العبثي، ونزيف الأرواح التي تحصد آناء الليل وأطراف النهار!
يوجعني أنَّنا صرنا نتغمَّس بمشاهد الدم كل صباح، ونتجرَّع الموت والدمار مع قهوتنا الصباحيَّة، ونحن نرى أشلاء أجسادنا العربيَّة تتساقط هنا وهناك في الأقطار المنكوبة بالتشرذم والاحتراب!
توجعني أشتاتي العربيَّة المبعثرة على حواف مدن الاغتراب والهجرة، والشواطىء المقفرة إلاَّ من جثث الأطفال والمهجَّرين، الذين حملوا أرواحهم على أكفّهم، وفرُّوا بأعمارهم وأقدارهم، باحثين عن أوطان بديلة، تستطيع حملهم واحتواءهم، بعد أن أضرمت نيران الكراهية الطائفيَّة أوطانهم الأم!
توجعني صرخة أمٍّ عربيَّة مكلومة، لا تجد لقمةً سائغةً تطعمها لطفلها، ولا تملك طمأنة خوفه، ولا تهدئة عينيه المرتعدتين فرقًا ورعبًا!
ويوجعني أبٌ عراقيٌّ نازحٌ، تسأله المذيعة في المخيم عن استعداده للفرار بنفسه، وأهله من بلاده، فيجيبها: إنَّه يودُّ لو يفرُّ من الكرةِ الأرضيَّةِ برمَّتها، فقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت!
يوجعني ويؤلمني أن نسددَ خناجرنا لبعضنا البعض، وأن نتحوَّل نحن أنفسنا إلى آلات حرب، وقنابل موقوتة من الكراهية والحقد على بعضنا الآخر المختلف، لنصبح نحن أنفسنا أدوات التقسيم، ومنفذي مخطط الفوضى العبثية التي نغوص في وحلها ومستنقعاتها منذ سنوات! يوجعني الدمُ النازفُ الذي نراه يجتاح جيراننا في الأوطان العربيَّة المتاخمة، والذي لا منقذ لنا هنا في وطننا من عدوى الإصابة به إلاَّ التماسك المجتمعي، والتلاحم الوطني، والتعايش مع بعضنا بعضًا، ونبذ كل ما يؤدِّي للفرقة والتشرذم.
كل فرد فينا مسؤول عن السلم الاجتماعي لهذا الوطن، وعن ترابطه ولحمته، وعن زرع قيم المحبة والتعايش، واحتضان التنوع والاختلاف، ومد جسور التواصل لنقطع الطريق على زرّاع الفتنة، ومشعلي نيرانها من المحرِّضين، سواء في مواقع التواصل الاجتماعي، أو في واقع حياتنا المعاشة.
من هذا المنطلق أسعدني كثيرًا تنظيم أكاديميَّة الحوار للتدريب التابعة لمركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني لورشة عمل يوم الأحد الماضي، تهتم بصناعة المبادرات المجتمعيَّة في التعايش والتلاحم الوطني. تجمع الورشة ١٠٥ من أئمة المساجد، والدعاة، والإعلاميين، فيهم خمس وأربعون سيِّدةً، يجتمعون على مدى ثلاثة أيام، ليعصفوا أذهانهم ليخرجوا بمبادرات تُصاغ في قوالب علميَّة قابلة للتنفيذ بأفضل الإمكانيات، وأبسط الأدوات، كما ورد في صحيفة (عكاظ). وتهدف الورشة إلى تحقيق أربعة أهداف، يأتي على رأسها ابتكار البرامج المجتمعيَّة لتحقيق التعايش، ووضع خطط للمبادرات وآليات تنفيذها، وتحديد آليات التنفيذ والجهات المنفذة، وصولاً إلى الخروج بخطوط واضحة للمبادرات من الممكن تحويلها لخارطة طريق على أرض الواقع.
من الجميل أيضًا أنَّ هذه الورشة تأتي في سياق الإعداد للقاء الوطني الهام، الذي ينطلق اليوم الثلاثاء من مركز الحوار تحت عنوان «التعايش الوطني، وأثره في تعزيز اللُّحمة الوطنيَّة».
لا شكَّ أنَّه من الأهميَّة بمكان زرع قيم التعايش والتبيئة الثقافيَّة لهذه القيم، وتعزيزها، وتكريسها في المجتمع، ويشكر مركز الملك عبدالعزيز للحوار على جهوده الحثيثة في هذا المضمار، فقد سبق أن قدَّم العديد من اللقاءات الوطنيَّة المهمَّة منها «التصنيفات الفكريَّة وأثرها على الوحدة الوطنيَّة».
رغم أهميَّة ما يقوم به مركز الحوار، فضلاً على المبادرات المدنيَّة الفاعلة في هذا المجال، إلاَّ أنَّه من الضروري اليوم أكثر من أي وقت مضى تدعيم هذه اللقاءات بنظام حماية الوحدة الوطنيَّة، الذي سبق أنْ قُدِّم تصورٌ له في مجلس الشورى عام ٢٠١٥، ورُفض آنذاك، فزرع قيم التعايش لا يمكن أن يؤتي أكله دون إطار قانوني تشريعي يدعمه، يجرّم الكراهية، ويضرب بيد من حديد المحرِّضين، وصنَّاع الفتن، وكل من يحاول النَّيل من لُحمة هذا الوطن.
أمل زاهد- المدينة السعودية-